يشدد الكثير من المسؤولين الأميركيين على أن الخيار العسكري ما زال مطروحاً على رغم المضي قدماً في تفاصيل مبادرة نزع الأسلحة الكيماوية التي تقدم بها الكرملين وقبلتها دمشق على الفور ورحبت بها الدوائر السياسية الغربية بما فيها البيت الأبيض. يتحدث المسؤولون الأميركيون في خطاباتهم ولقاءاتهم الإعلامية، «وأكرر الإعلامية وأزيد الإعلانية» على أن الإدارة الأميركية مستعدة للخيار العسكري دائماً في حال فشلت سورية في تنفيذ بنود المبادرة الروسية، يتظاهر الأميركيون بالقفز فوق الحلول، فيما الواقع يقول إن الضربة العسكرية لدمشق والتي كانت قاب قوسين أو أدنى قبل أيام قليلة، دخلت في منطقة معقدة يصعب الخروج منها، وستسعى الإدارة الأميركية في الخفاء عبر ديبلوماسيتها ومفاوضاتها السرية إلى توريطها أكثر وأكثر في هذه المنطقة، بينما ستخرج للعالم عبر الوسائل الإعلامية في كل مرة لتلوّح وتهدد فقط لتُبقي على صورتها في الذهنية العالمية كشرطي أوحد مسؤول عن أمن الكرة الأرضية!
ولا أستبعد أبداً أن تكون مبادرة الكرملين قد جاءت على جناح صقر أميركي، وهبطت على ظهر الدب الروسي في قمة العشرين قبل أيام لرفع الحرج الداخلي والدولي عن إدارة أوباما. ربما يكون الأميركيون نجحوا بالفعل في استدراج الروس لتبني هذا المخرج الديبلوماسي، وتمريره إلى نظام بشار الأسد تحت المظلة الروسية من حيث أدرك أو لم يدرك فلاديمير بوتين! هرب الأميركيون باتجاه المخرج الذي ينقذهم من الالتزام المشبوه، وأقبل الروس باتجاه المدخل الذي يضعهم من جديد في قلب الأحداث الدولية كقطب مُعادل للمعسكر الغربي، وعلى العالم، كل العالم، أن يقبل بهذه التسوية العلوية التي لا تأثير لها في الفظائع الأسدية الدائرة في الأسفل.
كانت القصة في البداية تتحدث عن حاكم يقتل شعبه في مقابل بقائه في الحكم. اختار الجزء الأكبر من العالم الوقوف مع الشعب ضد الحاكم، فيما انحاز جزء صغير للرجل الذي يحارب الجماعات الإرهابية والحركات الخارجة عن القانون في بلاده. أميركا كانت مع الشعب ضد الحاكم الذي فقد شرعيته، وروسيا وقفت مع الحاكم المهموم بإنقاذ شعبه وبلده من سيطرة القوى الإرهابية. كر وفر على ساحات القتال، تتقدم المعارضة حيناً ويستعيد النظام زمام الأمور حيناً آخر. بعض قنوات العالم تتحدث عن حرية الشعوب وسعيها للعدالة وتضحياتها من أجل المساواة، فيما أخرى تبث فيديوات عن وحشية المعارضين! وفجأة تغير كل شيء. استخدم النظام الكيماوي ضد الشعب بحسب أميركا، واستخدم الشعب الكيماوي ضد النظام بحسب روسيا ومن دار في فلكها، فانقلبت السياسة الدولية تجاه سورية رأساً على عقب، وتغيرت اللعبة تماماً في المنطقة. أصبحت القضية تتمحور حول وجود أسلحة كيماوية في منطقة حساسة من العالم من الممكن أن تهدد الأمن والسلم العالميين. نسي الجزء الأكبر من العالم سعي الشعب السوري إلى حريته، وتذكر فقط وجود الأسلحة الكيماوية عند طرف غير موثوق به، وبدأ بعد ذلك سباق الماراثون الدولي تجاه هذه القضية تحديداً من دون غيرها، ودخلت القضية السورية الرئيسة إلى دولاب «المؤجلات» الذي لا يعرف أحد متى قد يُفتح من جديد.
أوباما مرتاح للمبادرة وسعيد بالتطورات الجديدة التي أنقذته مرتين، مرة من تصويت غير مضمون للكونغرس على الضربة، ومرة من تدخل عسكري كان سيتم فقط بسبب تجاوز «الخط الأحمر» من دون حساب لما ستؤول إليه الضربة العقابية التي قد يكون أقلها خطر تحول سورية إلى إقطاعيات ميليشياوية وكانتونات أيديولوجية لا تقتصر فوضاها على جيرانها فقط، وإنما قد تمتد لتهدد مصالح الخصوم في أنحاء المعمورة، ولم ينسَ طبعاً أن يذكر في كل مرة يعطي فيها تصريحاً للإعلام أن الموقف الســوري تجاهها ما كان ليكون لولا التهديدات الأميركية باستخدام القوة. أما الأسد فهو على استعداد لتبني موقف المخرج الروسي لأنه يريد – على لــسان وزير خارجيته وليد المعلم – أن يجنب شعبه مخاطر الضربة الأميركية، بينما هو في الحقيقة على استعداد للتنازل عن جزء من السيادة الوطنية والتوقيع على شروط نصر وهزيمة لم يتما من أجل سلامة نظامه فقط.
أوباما حقق ما يريد وبوتين حقق ما يريد وبشار تحقق له ما يريد، فهل يعني هذا نهاية أزمة الأزمة، وبالتالي العودة إلى المربع الأول من جديد؟ هل يعني هذا الاكتفاء بتفكيك الأسلحة الكيماوية وتدمير قدرات إنتاجها والسماح لنظام بشار بإكمال إبادته لشعبه بالأسلحة التقليدية غير المحرمة دولياً؟
سندخل خلال الأسابيع المقبلة في جولات ماراثونية من زيارات خبراء الأمم المتحدة لسورية للإشراف على تدمير الأسلحة الكيماوية، وستطير التصاريح – التي مع أو ضد – هنا وهناك، وسيركض العالم ثم يهرول ثم يمشي، وقد يتثاءب مرة أو مرتين. سيتم كل هذا التقدم السلحفائي في الوقت الذي سيزيد فيه نظام بشار الأسد عملياته العسكرية ضد المحتجين السوريين، وسيكثر فيهم القتل والإهلاك، لكن كي لا نتجنى عليه، سيستخدم فقط أدوات القتل المسموح بها دولياً!
هذا التحول الدراماتيكي للأزمة السورية يفرض على الدول الخليجية أن تتحرك بمعزل عن «التفاهمات الأميركية – الروسية» ومن دون ربط مواقفها بجامعة الدول العربية. تركيا والدول الخليجية أكبر الخاسرين من فشل الثورة السورية، إذ ستمتد نتائج انتصار بشار على شعبه لتشمل تفويض إيران بإدارة المنطقة التي تمتد من منطقة بلوشستان إلى جنوب لبنان، ما سيجعل دول الخليج تحت النفوذ الفارسي الشعوبي وأدواته الطائفية في المنطقة، ما سيؤثر في مستقبل المنطقة ككل على الصعد كافة.
الثوار السوريون يحتاجون فقط إلى دعم يقوم على أسس ثلاثة: وقف تصدير الجهاديين الخليجيين الذين يذهبون إلى أرض الشام للموت في سبيل الله! للموت فقط! وتسليح المقاومة ثانياً، والعمل على اختراق النظام استخباراتياً ثالثاً.
أميركا ستعمل على تفكيك الترسانة الكيماوية وهذا جيد، وستبارك وضع إجراءات صارمة لإيقاف الموجة الجهادية وهذا جيد، وستعادل الموقف الروسي ضد أي تدخل من مصلحة النظام وهذا أمر جيد.
العودة إلى المربع الأول قد تكون أفضل الحلول في الوقت الراهن ولو كرهنا، فهل يتحرك الخليجيون والأتراك في هذا الجانب بجدية؟
* كاتب وصحافي سعودي
toalhayat@hotmail.com