عندما فاجأ الرئيس الأميركي باراك أوباما، مستشاريه وحلفاءه، وربما جنرالاته، وأحال إلى الكونغرس أمر الضربة العسكرية المقررة ضد النظام الذي ارتكب جريمة استخدام السلاح الكيماوي في الغوطتين، أشاع أوباما، المتردد بطبعه، حالة من الإحباط الشديد لدى المعارضة السورية التي رفعت سقف توقعاتها ومعنوياتها إلى ذروة سامقة، وكذلك لدى عواصم وقوى عديدة كانت قد شرعت في إجراء المناقشات، وبحث التداعيات، ووضع السيناريوهات حول اليوم التالي لهذه الضربة المحدودة، ناهيك عن تقديم خريطة طريق عاجلة للاستيلاء على العاصمة.
وفيما بدأ مؤيدو النظام المتوحش يحتفلون، بعد هذا التأجيل، بالانتصار على الإمبريالية المذعورة من مواجهة تحالف قوى الممانعة، كان النظام الذي لم يكف عن التهديد بتفجير المنطقة لحظة سقوط أول صاروخ على دمشق، بما ذلك الأردن وتركيا، يدخل في طور جديد من المكابرة، ويلتمس لنفسه الأسباب والذرائع والأوهام التي حملت أوباما على التراجع خطوة، ممنياً هذا النظام شبيحته برؤية ما حدث في مجلس العموم البريطاني يتكرر ثانية في الكونغرس الأميركي.
غير أن الكلام الكبير الذي فاض من على شاشة التلفزيون الذي وحد إرسال قنواته، كان يخفي في دواخله العميقة حالة من الذعر والتحسب، وكان يتجلد بصعوبة أمام عاصفة الهواجس التي راحت تستبد به، وترافقه في صحوه ومنامه، في انتظار أزوف ساعة الحقيقة القاسية، في نهاية مطاف بات معلوماً، لاسيما أن النظام يعلم علم اليقين أنه بعد هذه الضربة لن يكون كما كان قبلها، وأن الذين تنافخوا للدفاع عنه وأشبعوه عنتريات، سيتركونه لمصيره البائس وحده.
والحق أنني بنيت هذا الاستقواء اللفظي من جانب نظام الأسد، وهو يحسب الزمن بالأيام والساعات، فيما عجلة الوقت تدور ببطء ولزوجة، على قول ذائع للشاعر الراحل محمود درويش، خلاصته أن الطريق إلى البيت أجمل من البيت. وعليه، فإن انتظار الضربة العسكرية المؤجلة لعدة أيام يخلق، في حقيقة الأمر، واقعا هو أشد هولاً من الضربة ذاتها، خصوصاً بعد أن اتضح أنها لن تكون رمزية استعراضية وسريعة، بل ضربة استراتيجية كبيرة، وذات آثار تقويضية عميقة.
ولعل أكثر ما يثير الدهشة في هذه الضربة التي يقترب الكونغرس من منح التفويض لشنها، أنها بلا مفاجآت تُذكر؛ لا من حيث توقيتها أو من حيث أهدافها الميدانية، ولا حتى لجهة غاياتها السياسية المعلنة على رؤوس الأشهاد، كضربة صاروخية لكسر الذراع الجوية للنظام، والتي تشكل قوة تفوقه الحربية، أو قل كعملية مخططة جيدا لتدمير مقوماته الذاتية في مجال استخدام الأسلحة الكيماوية، بما في ذلك المخازن والمطارات والمقرات، وعقد الاتصالات، ومنظومة القيادة والسيطرة، وكل ما من شأنه تغيير ميزان القوة الراهنة.
وبالمحصلة، فإن الضربة التي أخذت تلوح نذرها في الأفق القريب، تبدو حملة أكبر بكثير، بل وأوسع نطاقاً، من تلك الضربة التي كان أوباما قد أوشك على شنها قبل أيام. كما تبدو الاستعدادات الحربية، وما يواكبها من عملية بناء قاعدة قوة متعاظمة، في البر والبحر والجو، وما يجري التمهيد له من أرضيات استراتيجية تلبي الأهداف الموضوعة لها، وتفي بمواجهة التداعيات المحتملة في محيطها، نقول إن هذه المؤشرات أدعى إلى حبس الأنفاس على نحو أشد من ذي قبل، ومكابدة الهواجس المثيرة لأسوأ التنبؤات، على طول الطريق الموصلة إلى فجر يوم يدنو بسرعة.
يبقى أن على الثورة السورية التي تبدو محرجة بعض الشيء، إزاء ما يجري وصفه على أنه استعانة بالخارج، ألا تبالغ في اجترار الاعذار، وفي رمي كرة المسؤولية على النظام الذي استدعى بوحشيته هذه الضربة. فإذا كان صحيحاً أنه لا وجود لثورة من صنع الخارج، تجتذب لصفوفها عشرات آلاف المنشقين والمقاتلين كل هذا الوقت الدامي، فإن من الصحيح أيضاً أن الثورة، أي ثورة في العصر الحديث، لا تستطيع تحقيق الانتصار بدون دعم خارجي؛ فمن الثورة الفيتنامية إلى ثورة الجزائر، وما بعدهما من حركات تحرر وطني، كان عنصر الدعم من خارج الحدود بمثابة العنصر الفارق في المسار كله.
عيسى الشعيبي/في الطريق إلى الضربة الوشيكة
17
المقالة السابقة