ليس في الأفق ما يشير إلى نضوج «صفقة كبرى» أو حتى تسوية بين اللاعبين الدوليين والإقليميين والمحليين في شأن سورية، يتم بموجبها حذف الخيار العسكري عن الطاولة. التطورات المثيرة منذ أسبوع كللها تراجع الرئيس باراك أوباما عن المضي بضربة عسكرية محدودة هدفها التأديب والردع تأهب لها العالم تلاه إعلان الرئيس الأميركي أنه اتخذ قراراً بضرورة توجيه الضربة لكنه يريد من الكونغرس اتخاذ قرار مماثل.
في البدء ظهر وكأن محور روسيا والصين وإيران و «حزب الله» والنظام في دمشق انتصر على الولايات المتحدة بل على حلف شمال الأطلسي «ناتو» الذي بدا مُبَعثراً، منقسماً مُشتَّتاً وخائفاً. هذا الانطباع ما لبث أن تضعضع عندما تحوّل فريق إدارة أوباما من حمائم إلى صقور انطلقوا إلى الكونغرس بثقة عارمة بأن الكونغرس سيعطي الرئيس صلاحية العمل العسكري – وإن كان لا يحتاج الصلاحية. الرئيس أوباما احتفظ بحق تنفيذ قراره بتوجيه ضربة عسكرية بصرف النظر عما يحدث في الكونغرس وانطلق إلى قمة مجموعة العشرين في سانت بطرسبرغ متأبطاً استراتيجية إحراج الآخرين ليقلب الموازين التي أعطت الانطباع أن الورطة ورطته هو. أخرج باراك أوباما نفسه من قفص كان فيه شبه وحيد موسِّعاً حلقة المسؤولية لتشمل الرأي العام والكونغرس أميركياً وحكومات ورأي عام الدول العشرين الأهم عالمياً.
الغائب الحاضر المهم جداً في معادلات التسوية أو الصفقة هو الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تؤدي دوراً مصيرياً في سورية، مباشرة وعبر حليفها «حزب الله» الذي يقر علناً أنه يحارب إلى جانب النظام في دمشق. هذا النظام صعّد وتوعّد بحرب عالمية ثالثة إذا تجرأ الرئيس الأميركي على توجيه ضربة محدودة كان قد وضّح أنها لا تهدف إلى اسقاط النظام. أما طهران فإنها أوضحت لكل من يعنيه الأمر أنها متمسكة بسياستها الداعمة لحكومة بشار الأسد، بلا تراجع ولا تردد ولا تعديل مهما تعاظم التهويل والتهديد. دخلت إيران ومعها «حزب الله» مداولات الكونغرس الأميركي بصورة غير مسبوقة في إطار علاقاتهما بالأزمة السورية، فطرأ تحوّل نوعي على النقاش الأميركي للمسألة السورية.
حكومة الرئيس الجديد في طهران، حسن روحاني، تعمدت الإيحاء للعالم عبر زائريها بأنها جاهزة للانخراط مع الأمم المتحدة، ومستعدة لخطاب أكثر انفتاحاً. إلا أن رجال روحاني كانوا واضحين جداً بأن لا تغيير قيد أنملة في ما يخص سورية، وأن سياسة تأمين انتصار الأسد وبقائه في السلطة حتى الانتخابات عام 2014 ما زالت سياسة طهران. هو ذا «الخط الأحمر» لطهران إن كان عبر صفقة أو تسوية وإذا كان رداً على عمل عسكري من أي نوع كان.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حاول الإيحاء بأنه جاهز للالتحاق بإجماع في مجلس الأمن لإعطاء صلاحية القيام بعمل عسكري في سورية، لكنه قيّد ذلك الاستعداد بشروط تعجيزية مصرّاً على موقفه الأساسي بأن الأسلحة الكيماوية التي استُخدِمَت في سورية قامت المعارضة السورية باستخدامها وليس النظام. تحدى بوتين الرئيس الأميركي على التقدم بأدلة قاطعة عن قيام النظام في دمشق باستخدام هذه الأسلحة المحظورة من دون أن يضع أي عبء مماثل على نفسه لإثبات اتهامه المعارضة باستخدام هذا السلاح.
الصين تلتزم الصمت، كعادتها، لكنها أيضاً صامدة في محور الممانعة الذي يضمها إلى «حزب الله» وبشار الأسد إلى جانب إيران وروسيا. ماذا ستفعل الصين في حال انخراط إيران وروسيا في الصراع. ماذا ستفعل الصين في حال انخراط الولايات المتحدة ومجموعة من الدول في عمل عسكري في سورية يبقى مجهولاً. المعروف هو أن الصين بقيت متماسكة في تحالفها مع روسيا في المسألة السورية، وهناك معلومات أنها تمد المعونة بمختلف أنواعها – المباشرة وغير المباشرة – للنظام في دمشق ليس فقط عبر روسيا وإنما أيضاً عبر إيران.
روسيا والصين دولتان مسؤولتان عن حفظ الأمن والسلم الدوليين وعن منع انتشار أسلحة الدمار الشامل والسلاح الكيماوي كونهما عضوين دائمين في مجلس الأمن الدولي. استراتيجيتهما حتى الآن، تبدو قائمة على التشكيك بالأدلة التي تقول إدارة أوباما إنها جليّة بأن النظام في دمشق استخدم الأسلحة الكيماوية. إنها استراتيجية النفي والنكران. ذلك أن أي إقرار بهذا يضع موسكو وبكين في حرج كبير، بل يضعهما في خانة الاتهام بأنهما تتعمدان الطعن بمعاهدات منع انتشار الأسلحة المحظورة.
جميع أطراف محور الممانعة هذا يراهنون على ضعف باراك أوباما وعلى الرأي العام الأميركي والغربي عموماً كما على البرلمانات الغربية. ما حدث في مجلس العموم في بريطانيا أثبت لهم أنهم محقون في هذا الرهان. فرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون تسرّع وأخطأ تكتيكياً فأفسح في المجال لما يصفه البعض بأنه «خدعة» من جانب زعيم حزب العمال إيد مليبند وأمام تصويت مجلس العموم ضد عملية عسكرية في سورية. احتياجات كاميرون السياسية وتعاطف الحكومات الصديقة له مع تلك الحاجة أدى إلى إخراج بريطانيا من «تحالف» كان يُبنى مع الولايات المتحدة. أتى ذلك التطور ليظهر مدى انخفاض ثقة صناع القرار البريطانيين بالولايات المتحدة ومدى استعدادهم لتقويض تلك العلاقة المميزة في التحالف بين الدولتين. وشكل صفعة مؤلمة لكل من ديفيد كامرون وباراك أوباما. ومثّل هدية ثمينة لبشار الأسد وفلاديمير بوتين وآية الله علي خامنئي والسيد حسن نصرالله الأمين العام لـ «حزب الله». أتى أيضاً ليبيّن نوعاً من «نفاق» الذين يرفعون شعار ضرورة الوقوف في وجه مَن يرتكب جرائم ضد الإنسانية، في مجلس العموم كما في صفوف الرأي العام البريطاني.
تلك «الخضّة» التي سبّبها تصويت مجلس العموم لباراك أوباما ساهمت في تراجعه المفاجئ الذي أذهل عواصم عدة – بما فيها باريس حيث الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند كان عقد العزم على الحلول مكان كامرون في موازين التحالف مع الولايات المتحدة. فقرر أوباما، على ضوء ذلك الدرس، أن مصلحته السياسية تقتضي قلب الموازين على الذين اتهموه بالتصرف انفرادياً واتخاذ قرار عسكري بلا صلاحية مجلس الأمن – كما فعل سلفه جورج دبليو بوش. قرر أن يشتري الوقت وأن يجر صناع القرار في أميركا إلى مشاطرة المسؤولية.
وزير خارجيته جون كيري – الذي تلقى صفعة من نوع آخر عندما وضعه الرئيس أوباما في واجهة التوعّد ثم خذله بتراجعه – نفض الغبار عن نفسه وتحوّل إلى أحد أهم أعضاء الإدارة الأميركية المكلفين إقناع الكونغرس بجدوى التصويت لمصلحة التدخل العسكري. لقد انقلب كيري 2011 على كيري 2009 الذي كان يدافع عن الأسد وزوجته أسماء معتقداً أنهما عنوان لإصلاح. بات يصف الأسد بأنه «مجرم» و «سفّاح» وبات أهم الداعين إلى عمل عسكري من أجل الحفاظ على سمعة الولايات المتحدة الأميركية كما من أجل حماية الأمن القومي الأميركي.
تغيّر النقاش في الكونغرس من عملية عسكرية محدودة عقاباً لاستخدام النظام في دمشق الأسلحة الكيماوية وردعه عن تكرار ذلك، دخل النقاش حلقة أوسع وصبّ في معنى وعواقب وتداعيات الرضوخ أمام مثل هذا التطوّر، بلا رد أو إجراء. توسعت الحلقة لتصبّ ليس فقط في تداعيات السكوت والتقهقر أمام نظام الأسد وإنما لتشمل معنى انتصار «حزب الله» في الحرب الأهلية في سورية، ومعنى انتصار الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الحرب السورية إقليمياً، ومعنى انتصار روسيا على الولايات المتحدة عبر المسألة السورية، ومعنى السماح للحلف الروسي – الصيني إخضاع الولايات المتحدة للصمت والخوف.
إقرار «لجنة الشؤون الخارجية» في مجلس الشيوخ مشروع قرار يجيز توجه ضربات عسكرية ضد نظام الأسد في تدخل «محدود» مدته القصوى 60 يوماً مع إمكانية تحديده حتى 90 من دون نشر قوات أميركية على الأرض ثم إدخال لغة مهمة عليه بناء على طلب من السيناتور الجمهوري جون ماكين نصّها أن السياسة الرسمية للولايات المتحدة تهدف إلى إحداث «تغيير في الدينامية على أرض المعركة في سورية». رافق ذلك إجراءات تفيد باعتزام الولايات المتحدة زيادة دعمها العسكري للمعارضة السورية المسلحة وإنهاء طابعه السري عبر نقله من وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) إلى وزارة الدفاع.
أركان الإدارة الأساسيون، نائب الرئيس جو بايدن، ووزير الدفاع تشاك هاغل، ووزير الخارجية جون كيري، ومستشارة الأمن القومي سوزان رايس فريق مهم في صياغة أهداف العلميات العسكرية – من الردع إلى «تقويض» أو إذلال قدرات النظام، إلى إحداث تغيير في الدينامية على الأرض. بالمقدار نفسه من الأهمية، إن إقرار الكونغرس – إذا أقر – العمليات العسكرية يعني عملياً أن الولايات المتحدة دخلت المعركة السورية ليس عبر ضربة واحدة وإنما عبر ضربات عسكرية متكررة أقله لشهرين أو ثلاثة. وهذا يفتح الباب أمام إمكان إنشاء منطقة حظر طيران وممرات إنسانية.
محور الممانعة الذي تهكم ضاحكاً على الرئيس أوباما بسبب تراجعه قد يجد أن النكتة وقعت عليه. فهناك اليوم كل سبب للاعتقاد بأن باراك أوباما سيحصل على صلاحية أوسع من الكونغرس، وأنه بعد عودته من سانت بطرسبرغ سيخاطب الرأي العام الأميركي ليبلغه بأنه سينفذ قرار التدخل العسكري. بالطبع، هناك إمكانية حقيقية بأن يعدل أوباما عن العمل العسكري إذا عارضه الكونغرس. لكن إصراره على أنه هو شخصياً، بصفته رئيس الولايات المتحدة الأميركية وقائد قواتها، يملك حق اتخاذ القرار يوحي بأنه عازم على ألا يبدو ضعيفاً مرة أخرى، لا سيما بعدما أعلن تكراراً أن لديه الأدلة بأن النظام في دمشق استخدم السلاح الكيماوي لقتل آلاف المدنيين ومئات الأطفال. فهو لا يريد أن يبدو نمراً من ورق، مرتبكاً، ضعيفاًً – كما صوّره حلف الممانعة. لا يريد أن يكون الرئيس المتراجع دوماً الذي لا يتصدى للذين ينتهكون القواعد الدولية والقيم الإنسانية. ولا يريد أن تكون سيرته التاريخية أنه الرجل الذي خضع للتهديد الآتي من نظام بشار الأسد أو من فلاديمير بوتين أو من الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
راغدة درغام/أوباما ينزع صورة الرئيس المتردد
16
المقالة السابقة