من الصعب أن نتذكر مرحلة بلغت فيها العلاقات بين واشنطن وموسكو هذه الدرجة من التدهور، منذ زمن الغزو السوفياتي لأفغانستان، أو زمن المظلة الروسية التي حاولت موسكو نشرها فوق رؤوس جزّاري بلغراد لحمايتهم في حروبهم ومذابحهم ضد كل من كان من غير الصرب في البلاد التي ورثوها من جوزف تيتو.
من الصعب أن نتذكر أيضاً مرحلة بلغ فيها التصعيد في لهجة الرد الروسي على المسؤولين الأميركيين درجة وصلت إلى حد اتهام موسكو لهؤلاء المسؤولين بالكذب، على ما جاء في وصف بوتين الاتهامات الأميركية بأنها «محض هراء»، وكذلك في ما نقل عن وزير الخارجية سيرغي لافروف، الذي قال إن موسكو «غير مقتنعة إطلاقاً» بالمعلومات التي قدمها الرئيس اوباما ووزير خارجيته جون كيري عن أن لدى الإدارة الأميركية ما يثبت أن نظام الرئيس بشار الأسد استخدم غاز السارين في قصف مناطق في غوطتي دمشق قبل أسبوعين، والذي أدى إلى مقتل أكثر من ألف شخص، من بينهم ما يزيد على 400 طفل.
إنه مستوى غير مسبوق من سقوط كل أصول اللياقة الديبلوماسية في العلاقات بين الدول، وكل ذلك تفعله موسكو من أجل حماية نظام دمشق، هي التي قامت بكل ما أمكن على مدى العامين والنصف الماضيين، لحمايته من المحاسبة، وكان ثمن ذلك شلّ مجلس الأمن ومنعه من القيام بمسؤولياته في حماية السلم العالمي. غير أن الثمن الأفظع كان المستوى الاستثنائي الذي بلغته آلة القتل السورية ضد شعبها، وحجم الدمار والخراب الذي لحق بالمدن والمؤسسات والبنى التحتية السورية، والتي ستحتاج إلى أعوام طويلة وبلايين لا تحصى لإعادة إعمارها.
ما الذي يدفع موسكو إلى اعتماد هذا النهج التصعيدي في وجه واشنطن من أجل إرضاء النظام السوري، وهي تعلم من دون شك أن بقاء هذا النظام صار مستحيلاً، ولم يعد أمام روسيا، إذا كان لها أن تكسب شيئاً في مستقبل سورية، سوى أن تتفاوض مع الشعب السوري على ما يمكن أن يحفظ مصالحها في المرحلة المقبلة؟
بل ما الذي يدفع موسكو إلى استعداء الأنظمة العربية ومعظم شعوب المنطقة بهذه السياسة التي اعتمدتها في مواجهة الأزمة السورية، والتي أدت إلى منع الحل السياسي الذي كانت تطالب به الدول العربية منذ البداية؟ فإذا كانت موسكو تدعي اليوم أن السبب وراء موقفها الداعم للنظام السوري هو الخوف من سطوة الجهاديين والحركات الأصولية على صفوف المعارضة، فإن تعطيل الحل السياسي، من خلال توفير الحماية للنظام وإقناعه بإمكان الانتصار المسلح على المعارضة، هو الذي أدى إلى دخول هذه المجموعات أصلاً إلى الأرض السورية، وإلى تفاقم أعمال العنف والارتكابات الإجرامية التي بتنا نتابعها بشكل شبه يومي.
هذه هي الأسئلة التي تحير كل مراقب لتطور الموقف الروسي من هذه الأزمة. فإذا كان موقف النظام الإيراني وحلفائه في المنطقة مفهوماً وتأييدهم لبقاء النظام السوري مبرراً، إذ إن بقاءهم مرتبط مباشرة ببقائه، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى موسكو. ومن هنا سبب الاستغراب.
لم يتأخر الوقت الذي تستطيع فيه موسكو أن تساهم في عمل إيجابي حيال الأزمة السورية. ولعل قمة مجموعة العشرين التي ستعقد هذا الأسبوع تكون فرصة لذلك. لقد قال الرئيس بوتين إن هذه المجموعة ليست بديلاً عن مجلس الأمن، لكنها منبر جيد لبحث هذه الأزمة. وبينما اتهم الولايات المتحدة بتدمير النظام الدولي، تجاهل أن تصويت بلاده (مع الصين) ثلاث مرات بالفيتو في مجلس الأمن هو الذي عطل قدرة هذا المجلس على اتخاذ قرار يفرض حلاًّ متوازناً.
قد تكون قمة العشرين فرصة مناسبة للبحث عن مخرج ولتفاهم جديد بين واشنطن وموسكو. لكن … إذا كان باراك اوباما قرر اللجوء إلى الكونغرس لاستشارته في كيفية الرد على النظام السوري، فهل من هيئة روسية يمكن أن يلجأ إليها بوتين لسماع رأيها في دعمه لنظام لا يتردد في استخدام كل الطرق للقضاء على معارضيه؟