إذا استمر إرسال الوفود المصرية إلى الخارج بدعوى مخاطبة الرأي العام الغربي بالوتيرة الحاصلة الآن، فأخشى أن تتفوق تلك السياحة السياسية، على سياحة القادمين من الخارج. بحيث قد يزيد عدد الوفود المصرية المسافرة إلى عواصمهم على عدد الوفود القادمة إلى شواطئنا.
قد لا تخلو الملاحظة من مبالغة، لكنها تعبر عن الغيظ والاستياء إزاء تفشي تلك البدعة الجديدة التي ظهرت في الفضاء المصري هذه الأيام. وفي العادة فإن البداية تتمثل في الغضب والإحباط الذي ينتاب أركان النظام الجديد حين يتلقون التقارير التي تتحدث عن تراجع صورة الثورة المصرية في الخارج بعد الانقلاب الذي وقع في الثالث من يوليو الماضي، وانتقاد بعض السياسيين والإعلاميين الأجانب للأحداث التي أعقبت الانقلاب. بدءا بحل مجلس الشورى وتجميد الدستور وانتهاء بالإضرابات والاعتصامات التي قوبلت بقمع الشرطة الذي أوقع آلاف القتلى والجرحى. في مواجهة تلك الانتقادات فإن إعلامنا الهمام يقوم بدوره في تجميل الصورة والتنديد بالإرهاب الذي يهدد مصر، واتهام وسائل الإعلام الغربية بالتحيز والأخونة والتآمر لضرب استقرار مصر وتقسيمها. ويزايد البعض في ذلك إلى حد الترويج لبعض الخزعبلات والادعاءات المضحكة التي لا تنطلي على أحد، من قبيل أن الرئيس أوباما يتعاون مع التنظيم الدولي للإخوان في الحملة على النظام المصري، ومنها أن شقيق الرئيس الأمريكي يتعاون مع الخلايا الإخوانية ويدعمها، ومنها أن ثمة مؤامرة غربية لغزو مصر.
بطبيعة الحال فإن مثل هذه الحملات التي توجه إلى الداخل لا تغير من مواقف الإعلام أو السياسيين الغربيين. ويبدو أن البعض يعتبر ذلك مفاجأة، ولا يخطر على باله أن أغلب السياسيين والإعلاميين هناك يعبرون عن قناعاتهم التي قد تتفق أو تختلف مع المواقف الرسمية لحكومات بلادهم.
إزاء ذلك يتنافس الناصحون في اقتراح مقارعة أولئك الغربيين في عقر دارهم، وإفحامهم هناك بمختلف اللغات الأجنبية التي يجيدونها، استنادا إلى منطق العسكريين القائل بأن الهجوم خير وسيلة للدفاع.
لا يستغرق الأمر وقتا حتى يصدر القرار وتعلن الأسماء وتنطلق الوفود لأداء الواجب المقدس في مختلف العواصم الغربية (لاحظ أن أحدا لا يأتي على ذكر الشرق).
وسط ذلك الحماس الذي يدعي الدفاع عن سمعة مصر وكرامتها المهدرة في الصحافة الغربية، ينسى المسؤولون أن لمصر سفارات في الخارج وأن تلك السفارات تحفل بالدبلوماسيين والملحقين في مختلف التخصصات، وأغلبهم يتمكنون من ذات اللغات التي يجيدها المسافرون. وما لا يقل عن ذلك أهمية أن الدبلوماسيين المصريين العاملين في العواصم الأوروبية لهم صفة بوسعهم أن يخاطبوا الآخرين على أساسها. أما أولئك الموفدون الذين يقع عليهم الاختيار فإنهم لا يمثلون أحدا، وغاية ما يمكن أن يقال عنهم إنهم أشخاص محترمون ــ ربما ــ يجيدون اللغات الأجنبية، ثم إنهم من المحظوظين المرضى عليهم من جانب الحكومة والأجهزة الأمنية، فلا هم منتخبون ولا هم يمثلون هيئات لها اعتبارها في المجتمع.
ينسى الذين يبعثون بتلك الوفود أيضا أن العواصم الغربية المعنية بالوضع في مصر لها سفارات في القاهرة وشغلها الشاغل هو تتبع كل شيء فيها والاستماع إلى مختلف وجهات النظر المطروحة في الساحة، وهؤلاء يطلعون حكوماتهم أولا بأول على ما يجري فيها، وبناء على تلك التقارير ترسم الحكومات سياساتها مهتدية بمصالحها وإستراتيجياتها، وهم ينسون أيضا أن القاهرة تزخر بالإعلاميين الغربيين (لا تسأل عن الجواسيس)، وهؤلاء يسجلون ما يشاهدونه ويبعثون به إلى الجهات التي يمثلونها. وهم في ذلك ليسوا منحازين إلى طرف في مصر، ولكن انحيازهم الأصلي للحقيقة وللمهنة التي يمتهونها ولمصالح بلادهم. وقد يكون لبعضهم أهواء وحسابات خاصة، ولكن ذلك يعد استثناء وليس قاعدة، ولذلك لا يقاس عليه.
الأهم من كل ذلك أن الذين يتحمسون لإرسال الوفود يتجاهلون أن الجهد الحقيقي لتحسين الصورة ينبغي أن يبذل داخل مصر أولا وليس خارجها. لأن النموذج الصحيح الذي يقام في داخل البلد، وثبوت احترام الحريات وحقوق الإنسان، هو الوسيلة المثلى لتحسين سمعة أي بلد في الخارج. بالتالي فإن صور المعتقلين المحترقين في سيارة الترحيلات أو الجثث المتناثرة في ميدان رابعة العدوية تشوه سمعة مصر في أنحاء العالم، على نحو تفشل في علاجه ألف بعثة لوجهاء القوم الذين يجيدون اللغات الأجنبية.
إن تحسين الصورة لا يمكن له أن يتحقق إلا إذا تم تحسين الأصل، وذلك ليس اكتشافا، لأن أجدادنا قالوا منذ زمن بعيد إن جهد «الماشطة» يعجز عن أن يغير شيئا أمام الوجه العكِر.