لم يتطور الغرب سياسياً واجتماعياً وثقافياً إلا بعد أن فصل السياسة عن الكنيسة والعقائد الدنيوية والميتافيزيقية، فعمل بالحديث الشريف: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، وبعدها بدأ ينتقل بسرعة البرق من ظلام القرون الوسطى إلى ما وصل إليه من تقدم وسؤدد في كل الميادين. وحتى الصين لم يكن لها لأن تتقدم وتصبح على مقربة من المركز الاقتصادي الأول عالمياً لو أنها ظلت عبدة للعقائد الأيديولوجية. بالمناسبة، غالبية الشعب الصيني بلا دين. دعكم من وصايا ماو تسيتونغ، فقد ضرب بها الصينيون الجدد عرض الحائط، وهي الآن كجثته المحنطة في ميدان “تيانامن”، مجرد جسد بلا روح.
لقد تجاوز الصينيون الأفكار الحزبية والأيديولوجية المحنطة، وانطلقوا يعملون بحرية بعيداً عن المفاهيم والأيديولوجيات المعلبة، فصنعوا المعجزات. لم يكن هدفهم تطبيق شعارات خشبية، بقدر ما كانوا يطمحون إلى تطبيق برامج تنموية عملية تخدم الإنسان، ولا تتاجر بروحه وتوجهاته السياسية والثقافية والاجتماعية والعقدية.
وإذا أرادت بلادنا ونخبنا السياسية والفكرية والثقافية والاقتصادية أن تنهض بأوطانها فعلاً، فعليها الابتعاد عن التحزب العقائدي المبني على أيديولوجيات دنيوية أو دينية. لم يعد هناك مكان حتى للأيديولوجيات الدنيوية في عالم اليوم، فما بالك للأيديولوجيات الغيبية التي تقحم الدين فيما لا يعنيه، وفيما يسيء إليه أكبر إساءة، لأن الدين عالم طاهر، بينما السياسية مجال قذر. فكيف للطاهر أن يلج العالم الوسخ ولا يتدنس؟ قد يرد البعض قائلاً: إن الدول المتقدمة ما زالت تحكمها الأيديولوجيات والأحزاب العقائدية، كالاشتراكية والعمالية والديمقراطية والجمهورية. وهذا صحيح فقط من الناحية الشكلية، أما في العمق، فقد اختفت الأحزاب العقائدية من العالم إلى حد كبير. فلو أخذنا أشهر حزبين بريطانيين في أوروبا مثلاً، وهما “حزب العمال” ذو التوجه الاشتراكي، و”حزب المحافظين” ذو التوجه اليميني التقليدي، لوجدنا أن لا اختلاف أبداً بينهما إلا في مخيلة من يتبعهما، أو إعلامياً فقط، لا أكثر ولا أقل. من السخف طبعاً الحديث عن توجهات اشتراكية لدى “حزب العمال” البريطاني إذا كانت الأحزاب الاشتراكية الحقيقية قد اختفت من أوروبا الشرقية، فما بالك أن تبقى في أوروبا الغربية التي تعتبر الاشتراكية رجساً من عمل الشيطان فاجتنبوه.
لقد تحولت الأحزاب الغربية في معظمها إلى أحزاب برامجية تنموية استهلاكية بالدرجة الأولى، وأصبحت بعيدة عن عالم الأيديولوجيات المعلبة بعد الشمس عن الأرض. ولو نظرنا إلى الأحزاب التي تفوز في الانتخابات في الدول الغربية وأمريكا لوجدنا أنها لا تفوز بناء على توجهاتها الروحية أو الفكرية أو الثقافية، بل بناء على برامجها التنموية الاقتصادية الاجتماعية. فالإنسان في هذا العصر أصبح إنساناً مستهلكاً، شئنا أم أبينا. وهو أصبح مبرمجاً على الاستهلاك، بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع تلك البرمجة، وبالتالي، فهو أصبح يميل بشكل كلي إلى التصويت للأحزاب التي تهتم ببطنه وملذاته واحتياجاته الاجتماعية والاقتصادية المتصاعدة، وليس إلى من يبيعه الشعارات الحزبية والدينية. وقد لاحظنا في السنوات الماضية كيف تحولت قطاعات كبرى من الغربيين من انتماءاتها الحزبية القديمة إلى انتماءات جديدة بناء على مصلحتها الدنيوية الاستهلاكية. وأرجو ألا يتحدانا أحد بـ”الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني”، فهذا الحزب لا يحمل من المسيحية إلا اسمها، أما في العمق فهو حزب علماني اجتماعي مثله مثل بقية الأحزاب الأوروبية الأخرى التي ترفع شعاراً عقائدياً، ثم تطبق عكسه على الأرض، كالأحزاب الاشتراكية مثلاً. ولو شاهد ماركس أو لينين سياسات الأحزاب الاشتراكية المزعومة في أوروبا لأصيبا بجلطة دماغية على الفور، لأن علاقتها بالاشتراكية كعلاقتي أنا بالمخلوقات الخنقوزافية الفنطوفية في المريخ والمشترى وزحل.
ليت الأحزاب العربية تتعلم قليلاً من التجربة المصرية الأخيرة التي وصل من خلالها حزب ذو توجهات دينية إلى الحكم. لا شك أن البعض قد يقول إن حزب الحرية والعدالة في مصر تعرض لمؤامرة كبرى لإبعاد الإسلاميين عن السلطة.
وقد يكون هذا صحيحاً، لكن فشل الحزب الواضح في إدارة دفة الحكم بعد الثورة جعل الكثير من المصريين المسلمين قلباً وقالباً ينفضون عنه رغم شعاراته وتوجهاته الإيمانية الإسلامية. لماذا؟ لأن حتى الإنسان العربي لم يعد يشتري في هذا العصر المتعولم الشعارات الأيديولوجية دنيوية كانت أو دينية مقدسة. فقد غدا الإنسان في كل مكان تحت تأثير العولمة ووسائل الإعلام العابرة للحدود والقارات، غدا إنساناً متعولماً يهمه بالدرجة الأولى احتياجاته الاستهلاكية قبل الروحية. فكيف نريد أن نقنع الإنسان الحديث بأن يصبح روحياً وهو لا يجد قوت يومه، وهو يرى أيضاً بقية شعوب العالم تنعم بكل ما لذ وطاب من مخترعات الحضارة الحديثة في المأكل والمشرب والتكنولوجيا؟ وأرجوكم ألا تستشهدوا بحزب أردوغان في تركيا، لأن الجواب سيكون مماثلاً، فحزب العدالة والتنمية التركي لم ينجح بناء على توجهاته الدينية، بل الدنيوية، لأنه ارتقت بتركيا اقتصادياً ومعيشياً، مما جعل حتى الملحدين يصوتون له، لأنه لبى الكثير من احتياجاتهم الاجتماعية والاستهلاكية. هل تتذكرون ما قالته إحدى العاملات في مجال “الترفيه الجسدي” في إسطنبول ذات يوم؟ قالت إنها صوتت لحزب العدالة والتنمية، لأنه رفع من مستوى دخلها وإنتاجها.
لا أحد يحدثنا عن الأخلاق في السياسة، فهذه كذبة كبيرة. وآخر من ضحك على الشعب بها رئيس الوزراء البريطاني الشهير طوني بلير، الذي أراد في بداية حكمه قبل سنوات أن يمارس السياسة بنكهة أخلاقية، ففشل فشلا ذريعاً، لا بل تفوق على اللاأخلاقيين كثيراً في سياساته البائسة، خاصة عندما تآمر مع أمريكا على تدمير بلد اسمه العراق بناء على أكاذيب مفضوحة.
وأخيراً لا يسعنا إلا أن نردد مقولة الشيخ الشعراوي الشهيرة: “أتمنى أن يصل الدين إلى أهل السياسة، ولا يصل أهل الدين إلى السياسة”.