دخل العالم العربي منذ يناير 2010 في دوامة التحول الجذري مع ميلاد السياسة بمعناها الحقيقي؛ أي عودة الوعي للإنسان العربي بأنه مواطن وله كما عليه حقوق للوطن، فأصبح لأول مرة في تاريخه الحديث، وبعد أكثر من نصف قرن من الغبن والقمع، إنسانا يفكر ويعبر. هذا هو المكسب الثمين للحرية، أما انعكاساتها الجانبية والطبيعية، فهي فقدان البوصلة الحضارية بعد سقوط منظومة القائد المستبد، حيث لم تولد بعد الدولة الجديدة العادلة الشفافة القوية من رحم صناديق الاقتراع، بل انفتحت أبواب العنف بين المتنافسين على السلطة ودخل الساكتون على ظلم الأمس مطهرة الاغتسال للاستحمام في “طهارة كبرى” تبرئهم من لوثة الماضي وتؤهلهم للعب أدوار أخرى في عهد جديد وغير مسبوق لم يتوقعوا قدومه بتلك السرعة. فإذا بالتوانسة والمصريين والليبيين جميعا يقولون “ثورتنا!” وكأن الملايين منهم كانوا في عهود ابن علي ومبارك والقذافي يحملون السلاح في الجبال ويقاومون الظلم، بينما انكفأ البعض القليل من المقاومين الحقيقيين للطاغوت أيام الجمر والصبر ينظرون من بعيد لهذه التزويرات التاريخية بعيون المتعفف القنوع قائلين: “لا حول ولا قوة إلا بالله” و”اللهم سترك على هذه الأوطان”.
وفي تونس التي تملك براءة اختراع الربيع العربي نكتشف أن الانطلاق في الإصلاح منذ الـ14 من يناير كان خطأ؛ لأنه ثبت اليوم أن الشعب لم ينتخب إلا مجلسا تأسيسيا لتحرير الدستور، فإذا به يجد أمامه حكومة، بل حكومات متعاقبة ورئاسة جمهورية مؤقتة لا تعمل عمل الرئاسة، وبرلمانا تفاجأ أعضاؤه أنفسهم بثقل المسؤولية حين طلب منهم أن يراقبوا عمل الحكومة، وأن يكتبوا دستورا جديدا، وأن يشرعوا القوانين، فإذا بهم يتحولون بشكل طبيعي إلى كتل حزبية تتصارع بدل أن تتحاور، وكما كان متوقعا تعطل مسار هذا المجلس ليهدد بفراغ.
وجاء الحدث المصري المزلزل يوم إقالة مرسي بعد أن تنفس المصريون الصعداء بانتخاب الرئيس الإخواني محمد مرسي، فإذا بمصر تستفيق على تخبط الجماعة بإصدار بيان دستوري يفوض مرسي كل السلطات، فتحول الرئيس المنتخب بحوالي 50% من الأصوات إلى حاكم بأمره أكثر سلطات من عبدالناصر ومن الملك فاروق ومن فرعون. فشعر الخمسون في المئة الباقون من المصريين من حداثيين ومن أقباط أنهم مهددون بالإقصاء والتهجير، ثم جاءت حركة الجيش مسنودة بنصف المصريين زاعمة أو عازمة على ما سمته تصحيح، لكن أخطاء الانقلاب كانت أكثر من حسناته، فالتقتيل فاق الحد ولا يبرره حتى بعض السلاح المرفوع ضد هيبة الجيش وسقط الضحايا دون قضية، ولم نعد ندرك كيف سيكون الخروج من المأساة، بل أصبحنا نخشى حربا أهلية طويلة لا تتحملها مصر ذات الاقتصاد الهش والموارد الشحيحة والديمغرافيا العظمى. فكان الانقلاب نهاية مأساوية لحالة فوضى عارمة.
وفي تونس أطل شبح الإرهاب على شعب لم يعرف تلك الظاهرة إلا من خلال شاشات الفضائيات في أفغانستان والعراق بسبب التجانس الطائفي والعرقي والثقافي للشعب التونسي، فإذا بنا نستفيق على جثث شهدائنا الأبرار مذبوحين وممثلا بها، ثم على حركات فوضوية متطرفة تنادي باستنساخ التجربة الكارثية المصرية على الشعب التونسي، فظللنا قلة من الناس ننادي بفضيلة الانتخاب وبمخاطر الإرهاب والانقلاب حتى لو كانت المسالك المؤدية للديمقراطية والتوافق مسالك عسيرة مليئة بالأشواك والمؤامرات، فالحلول الجذرية هي دائما في التعايش السلمي مع مواطنك المختلف عنك في الرأي أو في العقيدة أو في المصلحة، ولا يتم ذلك إلا بإعلاء الوطن فوق الأحزاب ورفع المصالح العليا المشتركة على المصالح الشخصية والفئوية الضيقة.
وفي ليبيا نشهد استفحال الشقاق القبلي ببلوغه درجة الانفصال عن دولة تحاول أن تكون مركزية، وأن تجمع فصائل المجتمع الليبي في وحدة وطنية، كما نشهد عدم عودة المقاتلين إلى مواقعهم وعدم تسليم أسلحتهم، بل نرى اليوم تصدير الكلاشنكوف وحامليه للدول المجاورة أمام عجز السلطات عن ردع الإرهاب ومحاصرة الإرهابيين، فتحول القطر الليبي إلى حالة اللادولة بعد أن كانت ليبيا في عهد العقيد أيضا لا دولة.
هكذا كتب على المواطن العربي أن يختار اليوم بين السيء والأسوأ، وبين المأساة والكارثة، وبين الطوفان والزلزال، باقتناعه التدريجي أن العرب ليسوا أهلا للحرية والديمقراطية، وبأن العرب شعوب تجمعهم الطبلة وتفرقهم العصا، وبأن نخبهم الحاكمة والمعارضة على السواء لا تمثل سوى رؤوس أينعت وحان قطافها، وبأن العرب كتبت عليهم الأقدار أن يظلوا على هامش التاريخ الحديث لا يصنعوا حضارة ولا يرتفعوا عن بدائية أحقادهم، ولا يدركوا الفرق بين المهم والأهم، ولا بين الصالح والطالح ولا بين الاستعجالي من القرارات وبين المؤجل من الاستحقاقات. فالانقلاب على الشرعية مهما كانت الشرعية هشة هو فتح لباب المجهول والحلقة الأولى في مسلسل الانقلابات كما كان الحال في سوريا والعراق ما بين الخمسينات والتسعينات: عسكري يأتي بالبيان رقم واحد فيقتل ويسحل الخونة السابقون، ويعلن أن فلسطين ستحرر وأن الشعب سيأكل بسكويت، وأن البلاد تحررت من الطاغوت ثم يليه زعيم ملهم أو ركن مهيب فيقتل القاتل ويعلن الحداد على ضحاياه، معلنا الانتقام لهم من السفاح وهكذا دواليك، والشعب العربي يصفق لهذا وذاك، حائرا كالشرق الحائر أمام مهزلة التاريخ. إننا في الاتحاد الوطني الحر في تونس ندعو للتوافق مهما كان صعبا حتى نأمن شرور اللادولة حين بلغ الأمر ببعض السياسيين إلى الدعوة إلى عصيان فوضوي بالامتناع عن دفع الضرائب وفواتير الكهرباء والماء والهاتف ووسائل النقل! اللهم عفوك وسترك.
د. أحمد القديدي
كاتب تونسي