إذا كان المقصود من التفجيرات المتنقلة في شوارع لبنان، نشر حالة من الذعر والخوف المتبادل، أي بصراحة، خوف كل طائفة من الطائفة الأخرى، والخوف من التنقل داخل الأحياء والمناطق «الأخرى»، فقد نجحت هذه التفجيرات في هدفها إلى حد بعيد.
المناخ السائد الآن في لبنان هو أن هذا الانفجار رد على ذاك. وهذا القتيل من هذه الطائفة مقابل ذاك القتيل من تلك. مؤسف وموجع هذا الكلام. لكنه الكلام الصريح الذي يجب أن يقال في هذا الظرف كي تستفيق العقول قبل فوات الأوان. لا يهم إذا كان التحليل النهائي هو أن الفاعل واحد، وأن القصد واحد، وهو نشر الفتنة، وإدخال البلد في أتون الحرب الطائفية القادمة من النار السورية. فهذا الخوف، خوف الطوائف من بعضها، الذي كنّا ظننا أننا دفنّاه مع ما افترضنا أنه كان نهاية الحرب الأهلية في لبنان، قد عاد اليوم بكل حدّته ودمويته. فحتى في خضم تلك الحرب الأهلية، لم تنتشر أعمال الذعر، من خلال التفجيرات الانتحارية، ولم تصل إلى داخل الأحياء والمناطق. على العكس، كانت كل طائفة تشعر أنها متى دخلت «حدود منطقتها» يصبح وضعها آمناً. فخطوط التماس كانت مرسومة بوضوح وبدقة، وكل من يخترقها كان معرضاً للمنع، وفي أحيان كثيرة للقتل.
أخطر ما يجري اليوم في لبنان هو أنه يعيدنا إلى ذكرى تلك الأيام السود. إلى المناطق المغلقة وإلى الحدود الواضحة. فما سمي «إجراءات أمنية» بعد تفجير الضاحية، وما شهدته بعض أحياء مدينة طرابلس في أعقاب تفجيري المسجدين، وأعمال التدقيق في هويات المارين على أساس انتمائهم الطائفي (والمذهبي كي نكون دقيقين)، تفتح الباب واسعاً أمام «تنظيف» المناطق، ومنع الاختلاط الذي يعتبر حالة طبيعية في بلد يفترض أن يعيش أهله مع بعضهم، حيث يكون التنقل بين المدن والمناطق أمراً عادياً لا يجوز أن تعيقه أي حواجز.
من أخطر الأسباب التي تحكى عن ضرورات هذا الأمن الذاتي هو انعدام الثقة، ثقة الجميع، في قدرة أجهزة الدولة على فرض الأمن وعلى حماية البلد وأهله. من جهة لأن ثقة المواطن بالدولة في لبنان مهزوزة تاريخياً، ومن جهة أخرى بسبب ما يرافق الفرز الطائفي في البلد من نتائج سلبية على أداء الأجهزة الأمنية، بعد اتهام كل منها بالاصطفاف الطائفي إلى جانب فريق ضد آخر.
وعندما يصل وزير الداخلية إلى حد تبرير التدابير التي تم اتخاذها في أحياء الضاحية الجنوبية، في أعقاب التفجير الأخير الذي وقع فيها، فانه يمكن تخيّل تأثير هذا الكلام على ثقة المواطن في الأمن الذي يجب أن توفره الدولة له. في وضع كهذا يصير صعباً مطالبة منطقة ما بعدم اللجوء إلى إجراءاتها الأمنية الذاتية في الوقت الذي يُسمح بهذه الإجراءات في منطقة أخرى.
بالطبع، لا يلام اللبنانيون في أية منطقة عندما يسعون إلى أية وسيلة تتاح لهم لتأمين حياتهم وأفراد عائلاتهم. صحيح أن هذه يجب أن تكون مسؤولية الدولة في الأساس. ولكن الدولة العاجزة والضعيفة والمسلوبة الإرادة هي التي تفتح الباب أمام المواطن لتوفير أمنه الذاتي. وهذه هي الطريق الأسرع إلى الانهيار الكامل. انهيار الدولة ومن بعدها انهيار صورة الوطن الموصوف بأنه وطن التعايش.
لعل السؤال الذي يجب طرحه هنا: هل كان ممكناً أن ينجو هذا التعايش وسط نيران الحروب المذهبية المحيطة بهذا البلد الصغير؟ لقد سال حبر كثير في التنظير لحكاية «النأي بالنفس» عن الأزمة السورية. الحقيقة المرة التي تواجهنا الآن أن كل الأطراف متورطة في هذه الأزمة حتى أذنيها، وإن كان بنسب مختلفة. كان مطلوباً من الدولة أن تفرض هذا «النأي» على الجميع، إنقاذاً للبلد وصوناً لأهله. لكن من أين تأتي بدولة كهذه فيما الدولة الحالية مركبة على قياس الأطراف الغارقة في الحريق السوري، ومن شحمها ولحمها؟