قليلاً ما تكسر المملكة العربية السعودية تلك الصورة النمطية السائدة في الأذهان العامة؛ دولة كبيرة وغنية، محافظة وحذرة، تأخذ وقتاً طويلاً قبل أن تفصح عن نفسها، وتتريث بشدة قبل أن تُعرب بلغة مجاملة عن سياساتها إزاء المتغيرات المحيطة بها. إلا أن هذه المملكة التي يحسب الجميع ألف حساب لأي اختلاف معها، لم تتوان في اللحظات العربية الفارقة، عن الجهر بمواقف من خارج مألوف سياساتها التقليدية، وتفعيلها ذلك بدبلوماسية هجومية لافتة.ونادراً ما تدخل هذه المملكة، ذات المكانة الرمزية الباذخة في وجدان العرب والمسلمين، في حالة خصومة مع جيرانها، أو حتى في مناكفة سياسية مع أشقائها المتطلعين دائماً إلى سخائها، وتتجنب المسّ بعلاقاتها المتينة مع الغرب، وبشراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة على وجه الخصوص، الأمر الذي يجعل من كل موقف خلافي لأهم دولة مصدرة للنفط في العالم، مع الدولة العظمى الوحيدة، حدثاً سياسياً مثيراً، فما بالك إذا تعارض الموقفان بوضوح، وافترقا حول قضايا إشكالية!ومن غير أن نسترجع وقائع بعينها من التاريخ البعيد نسبياً، فإنه يمكن الوقوف على أكثر من نقطة خلاف واحدة حدثت في السنوات الأخيرة، أخذت فيها “السعودية” موقفاً خلافياً متصادماً مع سياسة أميركا الشرق أوسطية؛ عبّرت عنه بلا جلبة، ولكنها مضت فيه بحزم بدون الالتفات إلى ما تقوله واشنطن، على نحو ما تجلى عليه الأمر إزاء عراق نوري المالكي، وسورية بشار الأسد، فضلاً عن دخولها بقوات “درع الجزيرة” إلى البحرين رغم كل الاعتراضات الأميركية المعلنة بفظاظة مدهشة.غير أن موقف السعودية الأخير حيال الثورة المصرية المتجددة، ومبادرتها السياسية والمالية والمعنوية الكبيرة والسريعة، إلى إسناد النظام الطالع من رحم هذه الثورة، كان أكثر مواقف “المملكة” شجاعة، وأشدها أهمية، وأعمقها بلاغة، منذ تلك الوقفة التاريخية التي اتخذها الملك فيصل رحمه الله، بمنع تصدير النفط إلى الدول الغربية إبان “حرب أكتوبر” 1973. وهو ما استذكره المصريون والعرب والعالم فوراً عندما انحازت العربية السعودية، بكل وزنها المرجح، إلى جانب الثورة الشعبية المصرية الثانية.وأحسب أنها لحظة سعودية أخرى، التقطها الملك عبدالله بن عبدالعزيز ببراعة وجرأة فائقتين، كي يدوّن في سجل “المملكة” وقفة تاريخية جديدة، لا تقل أهمية عن سابقتها قبل أربعة عقود مضت؛ إذ بدا الملك الطاعن في الحكمة والعروبة والنبل، أخاً حقيقياً لفيصل، وظهراً قوياً للأمة في ساعة الشدة، لا تأخذه في الحق لومة لائم أميركي، ولا تعوزه المؤهلات الذاتية لتخليد اسمه في سجل القادة الكبار، تماماً على نحو ما تجلت عليه ردود الفعل الرسمية المرحبة، حين تولت الدبلوماسية السعودية دفة القيادة العربية لصد الهجمة الغربية المستعرة.ومع أن المملكة التي تترفع في العادة عن التلاسن مع شاتميها، وتعتصم دائما بالحكمة، لم تدّع يوماً أنها ثورية، ولم تزعم أنها حصن يدافع عن الديمقراطية، غير أن وقفتها القوية مع الشعب المصري، ومواقفها المماثلة مع شعوب بلدان “الربيع العربي”، تعيد إنتاج صورة المملكة كرديف حقيقي لمطالب العرب بالحرية، ورافعة من روافع النهوض القومي العتيد. وهذا لعمري أكثر مما هو مطلوب من دولة تمثل مع مصر جناحي الطائر العربي القادر على التحليق عالياً في سماء هذه المرحلة العربية المفتوحة على استعادة التضامن الحقيقي.يبقى أن من بين أهم التداعيات الإيجابية الجانبية لهذه الوقفة السعودية الكبيرة، تمهيد الأرضية المناسبة لإحياء معسكر الاعتدال العربي، بعد أن تنحى لصالح معسكر إيران المسمى معسكر الممانعة والمقاومة زوراً، وحدث الانقسام البيني البغيض. وهو تطور يعد برفع سوية الأداء القومي على كل صعيد، بما في ذلك تعزيز الموقف التفاوضي الفلسطيني في مواجهة إسرائيل، وتقديم حماية أوسع للشعب اللبناني تجاه تغول حزب الله، وفوق ذلك إسناد الشعب السوري في محنته المروعة، لاسيما بعد مقارفة نظام الأسد جريمة استخدام السلاح الكيماوي على نطاق مرعب في الغوطة.issa.alshuibi@alghad.jo