أوقع الرئيس باراك أوباما الولايات المتحدة في أحضان الخضوع للتخويف والتهديد والتهادنية الخطية القائمة على الإرضاء وغض النظر عن التجاوزات. دخل أوباما الساحة السياسية نموذجاً للتجديد وللتغيير، وها هو اليوم يكرس الأساليب التقليدية في الحكم من الاعتماد على العمليات السرية للاستخبارات أساساً لسياسته الخارجية إلى انتهاك وعوده باحترام الحريات والسرية الشخصية على صعيد السياسات الداخلية. بدأ قائداً عالمياً وانتهى هارباً من مسؤولية القيادة. كان في ذهن الجيل الجديد في مختلف بقع العالم محرك الإيحاء والإيمان بالمبادئ، وبات اليوم موقع خيبة أمل بقيادة الولايات المتحدة عالمياً وبالأسطورة التي زرعها في مخيلة الشباب أين ما كان. بات فجأة وهو في أعلى مواقع السلطة في العالم مجرد رجل آخر من رجال السلطة في العالم الثالث حيث يأتي المرشح بأطنان الوعود ثم يختزل تطلعات الناس إلى واقعية أولويات السلطة. باراك حسين أوباما ليس اليوم الرجل الخارق الذي قبض على أنفاس الناس أين ما كان. إنه اليوم الرجل العادي الذي يتساءل الفرد أين ما كان مَن هو، وماذا وراء تخاذله، وماذا فعل بالعظمة الأميركية ولماذا قلّصها. إنما رأي العالم بالرئيس الأميركي له أيضاً مقدار من الأهمية لا سيما إذا كانت مواقف الرئيس الأميركي، في الانطباع العام، هروباً إلى الأمام تطرح سؤالاً أساسياً: من هو باراك حسين أوباما وماذا يريد؟
الرئيس السابق، جورج دبليو بوش كان واضحاً. كرهته، أحببته، وافقته، عارضته. كان الرجل واضحاً، قال ما يريد وأوضح من هو. دافع عن مواقفه. نفّذ وعوده. تمسك بتعهداته. كان رجلاً متماسكاً حتى في أخطائه. كان جورج دبليو بوش شفّافاً ولذلك كان تحت المجهر. دفع ثمن سياساته غالياً. إذ إنه بات الرئيس المكروه عند شعبه بسبب سياسات لم توافق عليها الأكثرية الأميركية. جورج دبليو بوش وضع استراتيجية بقاء ووضع استراتيجية خروج من العراق ومن أفغانستان وتركها لسلفه.
الرئيس باراك حسن أوباما يكتنف اليوم الغموض عمداً. دخل الرئاسة واضحاً عندما توجه في بدء ولايته الأولى إلى القاهرة واسطنبول، فارساً يمتطي حصاناً أبيض واثقاً من إعادة صنع تاريخ العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي. سريعاً ما باهته الواقع والواقعية وكشفت مدى طفوليته السياسية بالبعد من حنكة تجربة شيكاغو. وسريعاً ما تراجع عن وعوده. فكّك بأيديه ذلك العمود الفقري الذي اعتقده العالم خارقاً وواعداً. بات عادياً. وبات عرضة للتساؤل وللاتهام وللاستخفاف به وبالولايات المتحدة الأميركية.
قد تكون المسيرة التاريخية لباراك أوباما لدى الأميركيين اليوم سيرة إنقاذ أميركا من التورط في حروب الآخرين وسحب القوات الأميركية من العراق وأفغانستان وحماية المدن الأميركية من الإرهاب. لكن السيرة التاريخية لباراك أوباما هي أيضاً تقليص النفوذ الأميركي عالمياً وتراجع القيم الأميركية القائمة على رفض التفرج على انتهاكات فظيعة بما فيها التفرج على المجازر. فالولايات المتحدة الأميركية باتت في عصر باراك حسين أوباما في ظل التهادنية والإرضاء مع كل من الجمهورية الإسلامية في إيران و «الإخوان المسلمين» في مصر. وكلاهما علاقة استثمار في الأسوأ لكل من الولايات المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط والعلاقة الأميركية – الإسلامية على السواء.
سيقال إن حذاقة إدارة أوباما تكمن في اعتمادها وتبنيها حرب الاستنزاف والإنهاك المتبادل في سورية حيث «القاعدة» و «حزب الله» واقعان في مستنقع انهاء الآخر. وسيقال إن لا سياسة أفضل للولايات المتحدة من سياسة الابتعاد عن ساحة الإنهاك المتبادل والاستنزاف لأن ذلك هو تماماً ما يقع في المصلحة الأميركية. وسيقال إن إيران وروسيا وربما الصين أيضاً تحفر لنفسها الفخ الذي سيُسقطها في سورية وإن سورية ستكون لإيران «فيتنامها» ولروسيا «أفغانستانها» الثانية. وسيقال ليس هناك سيناريو أفضل من الحرب السورية ساحة للتخلص من إرهاب سنّي وشيعي يمتد من «جبهة النصرة» إلى «حزب الله». فلماذا ليست هذه أفضل سياسة للمصلحة الأميركية العليا؟
الإجابة أخلاقية واستراتيجية على السواء. أخلاقياً، تبدو الولايات المتحدة الدولة العظمى الوحيدة في العالم، في حال إفلاس أخلاقي وهي توافق على مجازر أطفال ونساء في حرب «ملائمة» لها بدلاً من اتخاذ مواقف تكسب لها القيادة الأخلاقية الرافضة استخدام المدنيين أدوات في استراتيجية الإنهاك والاستنزاف. بكلام آخر، هذا استثمار مروّع ومهين للمستقبل الأميركي. هذه دولة عظمى وليست «جمهورية موز». إنها دولة قائدة قوامها القوة والقدرة على القيادة أخلاقياً وليس الجبن الأخلاقي والسياسي على السواء.
استراتيجياً، إن الرهان على الإنهاك المتبادل رهان عابر لأن مثل هذا الاستثمار سيفرّخ المزيد من العداء. وبالتالي إنها سياسة خاطئة تشتري الاستقرار والطمأنينة الموقتين، وليست استراتيجية قوامها التفكير البعيد المدى. إدارة أوباما تخطئ أضعافاً مضاعفة ليس فقط لأنها تتغاضى عن إفرازات التفريخ المعادي للولايات المتحدة نتيجة تشجيع المواجهة الإرهابية، وإنما لأنها أيضاً تتعاطى مع إيران وروسيا بسذاجة لها نكهة «الأوبامية».
روسيا اشتمت تلك النكهة ولذلك التقط الرئيس فلاديمير بوتين الفرصة المؤاتية ووظف الفرصة لمصلحته. فهو لا يزعم القيادة الأخلاقية ولا يخفي انحيازه للنظام في دمشق ولا يتظاهر بأنه يبالي برد الفعل الشعبي في المنطقة العربية. رهانه على ضعف الولايات المتحدة الأميركية في عهد أوباما – أميركا العجوز كما يقول وزير خارجيته سيرغي لافروف. وحسّه السياسي هو أن باراك أوباما يريد له أن يتعنّت وأن يشل مجلس الأمن وأن يعطّل أية جهود لوقف الحرب السورية بما يتطلب إيقافها – أي التدخل المباشر لحلف شمال الأطلسي لفرض حظر الطيران وإنشاء ممرات إنسانية وما إلى ذلك من إجراءات ضرورية لإيقاف تلك الحرب الدموية. فكلاهما في وفاق: إن تلك الحرب على حساب أكثر من مئة ألف ضحية من الشعب السوري تبعد الإرهاب عن المدن الأميركية والروسية. وهذا يرضيهما ويناسبهما.
أما مع إيران، فإنها سياسة التهادنية والإذعان والإرضاء بامتياز. باراك أوباما لا يريد أن يحارب إيران مهما كان – وهو في ذلك قد قرأ أن إسرائيل أيضاً في علاقة تهادنية بل علاقة تحالف مع إيران طالما أن العرب عدوهما المشترك. كلاهما يجد في المملكة العربية السعودية ومصر الدولتين العربيتين اللتين تشكلان التحدي لهما، بعدما تم تدجين العراق لمصلحة إيران وفي الوقت الذي تقع المعركة على سورية، وروسيا ليست بعيدة أبداً عن هذه المعادلة.
فلاديمير بوتين قال لأحد مستمعيه عن الرئيس السوري بشار الأسد مبرراً تمسكه به حتى النهاية «هذا الولد أتى بالعالم أجمع إليّ». وهذا صحيح. الصحيح أيضاً هو أن باراك أوباما سمح لبشار الأسد أن يكون أداة إقبال العالم على فلاديمير بوتين. باراك أوباما سنح الفرصة للصين لأن تتزمّت وتعزز علاقتها الاستراتيجية مع روسيا أين ما كان لدرجة أنها، وفق المصادر، تبعث طائرات بلا طيار لمساعدة روسيا في سورية. هذه غلطة استراتيجية تاريخية ارتكبها باراك أوباما فيما كان يلتهي بفكرة «التحول إلى الشرق» بعيداً من الشرق الأوسط لبناء علاقات جديدة مع الصين. لقد أضعف أوراقه شرقاً عندما أهدرها في الشرق الأوسط، بالذات عبر إعطاء الصين أوراقاً ثمينة في سورية.
وفي مصر أيضاً ارتكب باراك أوباما أخطاء سيذكرها له التاريخ عندما أقبل على تبني «الإخوان المسلمين» اعتقاداً منه أنهم الرد المعتدل على أمثال «القاعدة». ضرب بعرض الحائط التركيبة المصرية الشعبية وظن نفسه عبقرياً عندما حاول استيراد النموذج التركي إلى مصر. تبنى التهادنية خوفاً من الانتقام. وها هو اليوم أيضاً في صدد التهادنية الخائفة بدلاً من القراءة الضرورية للحدث المصري بكامل أبعاده.
فذلك النمط من التهديد بقطع المعونات الاقتصادية وتعليق المناورات العسكرية إنما هو شهادة على قصر النظر واستثمار خاطئ في العلاقة الفائقة الأهمية بين الولايات المتحدة ومصر، وبين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي، وبالذات المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية.
فالأموال الأميركية لمصر بقيمة 1.3 بليون دولار ليست هبة بلا مرجع. اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل هي المرجعية، أما التفاصيل فإنها عسكرية أساساً ذات مردود للطرفين. فكفى تظاهراً بأن إيقاف المعونات سيؤذي فقط الطرف المصري. إنه يؤذي الولايات المتحدة بمقدار ما يؤذي مصر إذ إن الفوائد متبادلة.
أما الغضب من الأموال السعودية والإماراتية والكويتية فإنه تحقير لمصر وللمنطقة العربية أجمع وهي تمر في مرحلة تصحيحية ليس فقط للداخل وإنما لعلاقاتها الخارجية. ومن الضروري جداً لإدارة أوباما أن تدرك أبعاد مواقفها التقليدية التي لا تأخذ في الحساب التغيير الذي طرأ على المنطقة العربية.
يحق لإدارة أوباما أن تختار الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط، إنما لا يحق لها أن تترك المنطقة العربية، عمداً، في حالة انهيار تساهم في صنعها الولايات المتحدة الأميركية. فهذا أسوأ استثمار أميركي في مستقبل العلاقات الأميركية – العربية.
ما يحدث في سورية اليوم في ظل الحديث عن استخدام أسلحة كيماوية لربما يشكل أسوأ شهادة على التراجع الأخلاقي والاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية. فلقد تعهد الرئيس أوباما بـ «خطوط حمر» في 20 آب (أغسطس) 2012، ولقد قام باراك أوباما في 20 آب 2013 بمحو الخطوط الحمر عندما تراجع متقهقراً متمسكاً بأثواب روسيا والصين بمنع مجلس الأمن من الإصرار على التحقيق الفوري. ففي بيانه اعتبر المجزرة الكيماوية «مزاعم» بدلاً من الإصرار على استكشاف الحقائق. هكذا، أعطى ذخيرة إضافية لمجازر أخرى هروباً منه من استحقاقات لا يريد مواجهتها.
أن يفقد الرئيس باراك حسين أوباما الصدقية شيء، أما أن يتبنى سياسة الهروب إلى الأمام للولايات المتحدة الأميركية، فإنه أسوأ استثمار في مستقبل الولايات المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط على السواء.