ينبغي أن يدرك الأردنيون جميعاً ،سواء في الجانب الرسمي أو الجانب الشعبي ،أن ما يجري في المحيط العربي وفي دول الجوار ،وخاصة في سوريا ومصر ؛لا يسر صديقاً ولا يغيض عدواً، بل على النقيض من ذلك ؛إذ أنه يغيظ الصديق ويسر العدو! عندما تسود لغة الدم ،والحوار بالقتل وأدوات الموت، ولغة لإقصاء الخصم ونفيه من الوجود ..
لا أحد ينكر ضرورة التفاعل مع ما يجري في دول الجوار العربي، ولا أحد يستهجن مشاعر القلق والخوف الممزوج بمشاعر الإخوة والتعاطف مع الأشقاء، لكن ما يجب الالتفات اليه بمسؤولية وحكمة وحسن تقدير؛ أن لا يصل التفاعل مع الحدث الى إلحاق الأردن دولة وحكومة وشعباً بما يجري وربط مصيره بأحد الفرقاء، فهذا مجانب للصواب، ويتعدى حدود المنطق السياسي ومبدأ الاستقلال الذاتي.
ما ينبغي توضيحه بمنتهى الصراحة؛ أن الاختلاف في وجهات النظر حول ما يجري، وتباين التقويم لمسار الأحداث وتطوراتها في دول الجوار العربي، والنظر في عواقبها يجب أن لا يصل الى حد نقل المعركة الى المشهد المحلي الأردني !ولا إلى إحداث الشرخ و الانقسام السياسي بين الأحزاب والقوى السياسية الأردنية، الذي سيؤدي الى انقسام مجتمعي خطير، يهيىء البيئة لاستنساخ تجربة العنف والفوضى، واستدعاء منهج استخدام القوة !والتصفية الجسدية بين الأطراف السياسية والمجتمعية، ويتحمل المسؤولية في ذلك كل من الحكومة وأجهزتها واعلامها وكتابها ومؤيدوها، وكذلك القوى السياسية المختلفة بغض النظر عن تصنيفاتها وموقعها في خانة الولاء أو المعارضة.
يتحتم على العقلاء والحكماء أن يسارعوا الى اشتقاق النموذج الأردني السلمي الحضاري، والتوافق على انتاج تجربة أردنية فريدة تصلح أن تشكل نقطة مضيئة في الإقليم المضطرب والمرتبك والمفتوح على كل الاحتمالات، بحيث نحتكم جميعاً الى مبدأ إعلاء مصلحة الدولة الأردنية، التي تتسع الى كل أبنائها، الذين يسعون الى المضي قدماً في تحقيق الاصلاح الوطني الشامل، بطريقة هادئة ومتدرجة وواثقة، من خلال المحافظة على المؤسسات الوطنية، والبناء على الانجازات الصحيحة السابقة، والقدرة على معرفة الأخطاء ومواقع الخلل التي تم الوقوع فيها في المراحل السابقة، والمكنة الجماعية من الإقدام الجريء على تصحيح هذه الأخطاء وتجاوز الزلات والهنات، بمرونة وحكمة وعزيمة صادقة بعيداً عن منهج المكايدة والمناكفة والمزايدة من طرف على طرف! وبعيداً عن نهج الاستفراد والإقصاء المتأصل في الذهنية العربية!!.
ما يستوجب البدء به هو الإدراك الجمعي لطبيعة المرحلة، وأوصافها ومتطلباتها، بحيث نمتلك اليقين بأنها مرحلة انتقالية، كما ينبغي الوقوف المتعقل الحكيم على هذا المعنى طويلاً، لأن المرحلة الانتقالية تتطلب نظرة مختلفة ومناهح وأساليب وأدوات مختلفة عن مرحلة الاستقرار التام، وهذا يدفع بنا جميعاً الى ترسيخ مجموعة من المبادئ والقضايا الأساسية :
– المرحلة الانتقالية تقتضي إيجاد صيغة تشاركية تستوعب كل الأطراف بلا استثناء، وتوزيع الأدوار السياسية بعدالة، بحيث يكون الحرص على التوافق مغلبا ويشكل اولوية، من اجل النجاح في تحقيق العبور المجتمعي الشامل من عنق الزجاجة، بأقل قدر من الخسائر على جميع الأصعدة وفي كل المستويات.
– السمة الغالبة على المرحلة الانتقالية أنها مرحلة التضحيات وإعلاء شأن الواجبات الوطنية، أكثر من كونها مرحلة مكتسبات وغنائم، لطرف على حساب طرف أو لقوة سياسية على حساب قوة سياسية أخرى، كما أنها ليست وقتاً مناسباً لتصفية الخصومات والحسابات السابقة.
– لا تستطيع قوة سياسية مهما حظيت من شعبية أن تتفرد بقيادة المشهد، ولن تستطيع تحقيق النجاح في إدارة الدولة لوحدها، مهما أوتيت من قوة، ومهما امتلكت من طاقات وقدرات وكفاءات بشرية ومادية متعددة، فضلاً على أن الشعوب العربية تنفر من أسلوب حكم الحزب الواحد، والرجل الواحد والفئة الواحدة.
– توحيد المكونات المجتمعية ومحاربة النعرات التفريقية مطلوبة في كل الأوقات، ولكنها في هذه المرحلة أكثر ضرورة وأعظم مطلباً وأثراً، مما يقتضي الحرص الجمعي من كل الأطراف، ومن جميع القوى السياسية والاجتماعية، على استنهاض عوامل الوحدة، والبعد عن دواعي الفرقة ومحاربة التعصب الديني والمذهبي، والعرقي والإقليمي والجهوي، ولو اقتضى ذلك بعض التنازلات حتى لو كانت مؤلمة.
– ينبغي الحرص على علو مكانة الدولة، والحرص على سلامة المؤسسات الوطنية، لأنها ملك لجميع الأردنيين، كما ينبغي التوافق على بقاء مؤسسة الجيش والقوات المسلحة في موقع محايد من الأطراف السياسية، ويجب الحرص على عدم زجها في معمعة الخلاف السياسي وتجنيبها الاصطفاف الذي يؤدي الى إلحاق الضرر بمؤسسة الجيش نفسها على وجه الخصوص، فضلاً عن الحاق الأذى بالشعب والدولة عموماً.
– هذا كله يقتضي المسارعة في صياغة العقد الاجتماعي، الذي يتم التوافق من خلاله على قواعد اللعبة السياسية وشكل الدولة القادمة، ومكونات الدستور الجديد الذي يستوعب المرحلة الجديدة وتطوراتها، ويستوعب أشواق الأردنيين نحو الحرية والرفاه والتقدم، قبل الذهاب الى صناديق الاقتراع.