عروبة الإخباري – مبتغانا هنا هو بيان كيفية بناء كتلة ثورية عربية قادرة على تحقيق مهمات ثورية رئيسية على الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية. كيف يمكن بناء مثل هذه الكتلة التاريخية؟ فالتغيير في المجتمعات لا يحدث من ذاته وبذاته، وإنما بفعل كتل تاريخية واعية وفاعلة. من ثم، فإن السؤال الجوهري هنا هو: كيف نبني مثل هذه الكتلة؟ وكيف نبني الوعي الثوري؟ وما دور الفلسفة في ذلك كله؟
وبالطبع، فإن الشرط الأساسي لذلك هو أولاً وجود هذه الكتلة التاريخية في ذاتها، أي موضوعياً. والذي يضمن ذلك هو طبيعة المجتمعات الطبقية وخط سيرها وتطورها العام. فالتغيير الاجتماعي التاريخي تحركه النزاعات الاجتماعية، وبخاصة النزاعات الطبقية. إن حقيقة الاستغلال والقهر في المجتمعات الحديثة تضمن استقطاب المجتمع في كتل تاريخية متصارعة. من ثم، فإن المهمة التي تجابهنا اليوم هي كيف تنظم الكتلة التاريخية المستغلة والمقهورة ذاتها قوةً اجتماعية تاريخية قادرة على إحداث تغييرات عميقة في المجتمع، وكيف تبني وعيها الثوري المطابق لوجودها البائس.
وينطوي ذلك على تحويل هذه الكتلة التاريخية من كتلة في ذاتها إلى كتلة تاريخية في ذاتها ولذاتها، حسب تعبير هيغل. وبتعبير آخر، فإن المهمة الملحة هي كيف تغير هذه الكتلة ذاتها من موضوع سكوني مفعول فيه وبه وعليه إلى ذات تاريخية قادرة على التفكير المستقل، والتخطيط، وخلق الأفكار والمواقف، وأخذ القرارات، والفعل الهادف المستقل. وأطروحتي الرئيسية هنا هي أن للفلسفة دوراً حاسماً في عملية التحويل هذه من الموضوع إلى الذات. لماذا؟
أولاً، علينا أن نقرّ أن الفلسفة تنتمي إلى الطبقة الأعمق من طبقات الوعي الاجتماعي التاريخي. فهي تتعامل مع الأسس المتنامية الأعماق في الفكر. ومن ثم، فهي تمثل عمق أعماق الوعي الاجتماعي التاريخي. وهذا يعني أن الفلسفة تكون قاعدة الذات المفكرة، وأن الذات المفكرة تجد نفسها في الفلسفة. إن الفلسفة هي الإيماءة الأعمق للوعي البشري، ومن ثم للذاتية البشرية. فالتحويل الذي يتكلم عنه هيغل، أي التاريخ بوصفه سيرورة تحول الموضوع إلى ذات، يصل أوجه في الفلسفة.
وعلى صعيد الفرد البشري، فإن ذلك ينطوي على تحويل الفرد إلى ذات مفكرة. وفي مقدمة العمليات الاجتماعية في هذا الصدد هي العملية التعليمية. والنقطة الجوهرية هنا هي ما إذا كانت عملية التعليم، بمعناها الواسع العريض، قائمة على الدغما أو على الفلسفة. فالتعليم الدعمائي يدفع صوب تحويل الفرد إلى موضوع سكوني مفعول فيه وبه وعليه. فهو يولد ثقافة القطيع والأوامر والطاعة والتنميط والقبول الأعمى والتسليم بالأمر الواقع. أما التعليم الفلسفي، فهو يولد ثقافة التفكير النقدي والتساؤل والتمرد والحرية المنظمة والجدل اللامحدود، ومن ثم، فهو يدفع صوب تحويل الفرد إلى ذات مفكرة فاعلة.
أما على صعيد الكتلة التاريخية، فإن التعليم الفلسفي ينطوي على الفرق بين تحويلها إلى قطيع يؤمر ويوجه من خارجه وبين تحويلها إلى عامل ثوري للتغيير. فالتعليم الدغمائي يولد القطيع، فيما يولد التعليم الفلسفي كتلة من الذوات المفكرة الحرة، أي كتلة تاريخية ثورية. من ثم، فإن الروح الفلسفية تولد الذات الفردية المفكرة والفاعلة والذات الجمعية المفكرة والفاعلة.
ومن جهة أخرى، فإن الروح الفلسفية تدخل جوهرياً في تشكيل ما أسماه أنطونيو غرامشي المثقف العضوي، أي التجسيد الفردي للوعي الجمعي أو الوعي الطبقي. فالمثقف العضوي ليس مجرد ذات مفكرة أو مجرد فرد فاعل، وإنما هو أيضا تجسيد لوعي اجتماعي أو طبقي. وبهذه الصفة فهو قوة اجتماعية ومنظم لجماعة أو كتلة تاريخية وقيادي فيها. فهو مدرك لتاريخيته وجوهره الاجتماعي ولجذوره الراسخة في المجتمع والتاريخ. وهو يدرك انتماءه الموضوعي لجماعة وطبقة وأمة، ومن ثم يدرك مسؤوليته الجمعية صوب الكل الاجتماعي التاريخي. من ثم، فإن موضوع فعله واهتمامه هو ليس ذاته بوصفه فرداً، وإنما هو هذا الكل الاجتماعي التاريخي. وعليه أيضاً، فهو يمثل الوحدة الجدلية بين الفردي والجمعي. وتدخل الفلسفة، بوصفها الصراع الطبقي على الصعيد النظري، حسب تعبير الفيلسوف الفرنسي، لوي ألتوسير، في تشكيل المثقف العضوي. فالفلسفة بطبعها تغوص إلى أعماق الوعي، ومن ثم تتخطى سطحه الفردي صوب أساسه الاجتماعي التاريخي الجمعي. وعليه، فإنها تدخل جوهرياً في تشكيل شعوره التاريخي الاجتماعي، ومن ثم في تشكيل ذاته مثقفاً عضوياً.
من ذلك كله يتضح أن الفلسفة تدخل جوهريا في تشكيل الطبقة والأمة لذاتهما. فالجماعة تغدو مدركة لذاتها عبر الفلسفة في المقام الأول. وتكتسب الذات الجمعية هويتها وتماسكها عبر مثقفيها العضويين، ومن ثم عبر الفلسفة.
وأخيراً، وليس آخراً، فعلينا أن نتناول في هذه السياق مشكلة العقلانية، أو بالأحرى مشكلة غيابها، في الوطن العربي اليوم. إذ إن العقلانية العربية القديمة هزمت في العصور الوسيطة وظلت مهزومة حتى وقتنا الحاضر. ويبدو لي أنه لا يمكن لنا تحقيق أي تقدم حقيقي على درب عودتنا إلى التاريخ من دون أن نعيد تملك العقلانية، ولكن بصيغتها الحديثة. ولا يمكن أن نفعل ذلك إلا عبر تملك العلم الحديث والفلسفة الحديثة. ولنفصل في ذلك قليلاً.
في القرون الهجرية الخمسة أو الستة الأولى، ساد نمط من العقلانية يمكن وسمه بأنه عقلانية ميتافيزيقية برهانية يشوبها قدر من العرفانية والغنوصية. وكان أكبر ممثليها من الإغريق أفلاطون وأرسطو وأفلوطين، ومن العرب المعتزلة والكندي والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن باجه وابن رشد. وكان النهج المهيمن في هذه العقلانية، وبخاصة في الطبيعيات والمنطق والميتافيزيقا، هو النهج الأرسطي. في ذلك النهج، كان هناك مصدران أساسيان لليقين المعرفي: العقل البحت والحواس. إذ اشتق أرسطو مجموعة من المبادئ الميتافيزيقية من العقل البحت، وعدها قاعدة للمعرفة اليقينية. ومن جهة أخرى، فقد عدّ عالم الحواس الخام يقينياً، من دون إخضاعه إلى النقد العقلي الصارم. وتمثل نهج أرسطو في تأكيد المبادئ الميتافيزيقية العامة، ثم ما أسماه الإغريق “إنقاذ الظاهرات” بها، أي استيعاب الظاهرات الحسية الخام بها. وكان سبيله إلى ذلك المنطق ومبادئ المنطق والقياس المنطقي. فالقياس كان الجسر الواصل بين الميتافيزيقا والحواس.
وقد بنت الحضارة العربية الإسلامية عقلاً نظرياً كاملاً متكاملاً ارتكازاً إلى ذلك، وكان هذا العقل أداة تنمية وحكم في آن.
لكن أحداثا جساما وقعت بين القرنين الحادي عشر والسادس عشر الميلاديين أدت إلى مآلين تاريخيين مصيريين: أولا، تمت تصفية العقل النظري العربي الإسلامي من جانب الدولة الاستبدادية ومثقفيها؛ وثانياً، أفلحت أوروبا في استيعاب العقلين النظريين الإغريقي والعربي والتصالح نسبياً معهما، ثم انبرت لتخطيهما صوب عقلانية جديدة وعقل نظري جديد. ويمكن وسم هذه العقلانية الجديدة بالعقلانية العلمية لارتباطهما الوثيق بالعلم الحديث، الذي انطلق محلقا في سماء التاريخ منذ القرن السابع عشر الميلادي. وكان هذان الحدثان الكبيران وبالا على امتنا ونصرا كبيرا للغرب. ذلك أن تصفية العقلانية القديمة الميتافيزيقية في حضارتنا شكلت مظهراً وسببا في آن لركودنا وتقهقرنا الحضاريين منذ العصر الوسيط. كما إن استيعاب أوروبا العقلانية القديمة وتخطيها صوب العقلانية العلمية الحديثة شكلا مظهراً ودافعاً كبيراً لنهوضها الحضاري الحديث وانطلاقتها الكبرى.
ولا أريد هنا أن أدخل في تفصيلات هذه السيرورة ولا في الفرق التفصيلي بين العقلانية القديمة الميتافيزيقية والعقلانية الحديثة العلمية. وأكتفي بالقول إنه فيما كانت العقلانية الميتافيزيقية تنطلق من العلل الأولى المتعالية فوق الطبيعية وتعجز عن فحص الواقع ونقده وتقبل مادة الحس الخام على علاتها، فإن العقلانية العلمية لا تنطلق من العلل الأولى المتعالية ولا من الكائن الخام، وإنما من الممكن الواقعي أو من التجريد القابل لأن يعالج رياضيا ويعمم. وعليه، فإنها تستبدل العلل المادية بالعلل الأولى المتعالية والمبادئ الرياضية بالمبادئ الميتافيزيقية والاشتقاق الرياضي والتركيب الجدلي بالقياس المنطقي. وتدرك أن التجربة الحسية تحوي من الذاتي ما تحويه من الموضوعي، وأنها في جانب منها صناعة بشرية، وأن الحواس البشرية ليست مصدراً لليقين، وإنما هي أدوات منقوصة للقياس، وأن عين الحقيقة هو العقل العلمي لا الحواس. كما تدرك أن كل حقيقة نسبية ومشروطة ومحدودة، وإن كانت مفتوحة على اللانهاية، وأن المطلقات ليس لها أساس موضوعي، وإنما أساس ذاتي وجداني، وأن المعرفة لا تقوم على مسلمات يقينية، وإنما على افتراضات مدروسة قابلة للدحض والتعديل والاختبار.
والمشكلة التي تجابهنا اليوم هي أننا فقدنا العقل النظري القديم منذ العصر الوسيط ولم نفلح في تملك العقل النظري الجديد. وأعني بالعقل النظري بناء من الأفكار والممارسات العلمية القائمة على أسس فلسفية رحبة ودينامية. فالوعي السائد عربياً هو وعي مفوّت، كما نعته ياسين الحافظ. وهذا الوعي المفوّت يشكل عائقاً كبيراً أمام تحقيق مهمات النهوض الحضاري في الوطن العربي، أمام عودتنا إلى التاريخ وتقدمنا. وهو مسؤول إلى حد بعيد عن تعثر مسيرتنا الحضارية وإخفاق حركات التحرر الوطني العربية. ولا سبيل إلى تخطي هذا الوعي المفوت من دون تملك العقل النظري الحديث تملكاً نقديا عميقا. ومن ثم، فلا بد من مجابهة تحدي الفلسفة الحديثة المرتبطة عضوياً بالعلم الحديث من أجل تفكيك الوعي المفوّت، أي لاعقل الثورة الثقافية المضادة الذي هيمن على ثقافتنا منذ العصر الوسيط. فالوعي المفوّت ليس هو أداة التغيير الثوري المناسبة. لا بل إنه الأداة المثلى في يد قوى الثورة المضادة من أجل إعاقة الثورة العربية. لذلك، علينا أن نفكك هذا الوعي بالعلم والفلسفة وبناء وعي جديد نقدي وثوري بهما يرشد الكتلة التاريخية الثورية في عملية التغيير الثوري.
وكما بيّنا، فان الفلسفة تدخل جوهريا في تشكيل الذات الفردية المفكرة والقيادات الثورية والمثقف العضوي، وفي تفكيك الوعي المفوّت وبناء الوعي المحدّث النقدي الثوري على أنقاضه. ومن دون ذلك يتعذر تحويل الكتلة التاريخية من كتلة في ذاتها إلى كتلة لذاتها. هذا هو الدور الثوري للفلسفة في وطننا العربي الحديث، وهكذا تدخل الفلسفة في عملية التغيير الثوري التي نشهدها اليوم في طول الوطن العربي وعرضه، والتي نسعى إلى العمل من أجل إنجاحها والحيلولة دون تعثرها. لا بديل عن الفكر. فليس هناك حركة ثورية من دون نظرية ثورية. إن الثورة الشعبية في وطننا لهي في أمس الحاجة إلى ثورة ثقافية، إلى ثورة فلسفية، ترفدها وتقودها.
*الورقة التي ألقيت في ندوة “حال الفلسفة في الاردن” التي عقدت يوم 20/8/2013 في الجامعة الاردنية