لم يكن الأمر عادياً ولا طبيعياً، عندما قام من قام بإحراق عشرات الكنائس في يوم واحد وفي بلد واحد هو مصر. أجل، في مصر، بلد الحضارة والثقافة والعيش المشترك الممتد الى مئات بل ألوف السنين. الأمر محزن ومخزي ومُدان من كل صاحب ضمير ما زال حيا وواعياً لخطورة ما يحدث ليس على المسيحيين فحسب بل على جميع السكان.
الأمر المشرّف هو موقف الكنيسة برئاساتها وتعدديّتها وشعبها النبيل، فلم تصدر أية كلمة داعية الى الانتقام او المعاملة بالمثل. فالشعب يعرف انّ من قام بالجريمة ليس المسلمين بل هم فئة بقيت تتذرّع بالدين لفترة ومن ثم بان ما تحت الثلج فإذا بالرغبة الالغائية تتصاعد، ومعها رغبة جارفة لإضفاء لون منغلق قاتم واحد عل كل مكوّنات الشعب الرئيسية، وعلى مرافق الدولة كافة.
لم يصدر عن الكنيسة- أو الكنائس- لا في مصر، ولا في الشرق كله أي كلام يدعو الى الانتقام أو يهدّد ويوعد، وعندما نسب على بعض صفحات الفيسبوك كلام الى البابا فرنسيس يستخدم لغة التهديد والتوعيد، قامت جهات عدة، ومنها محلية في الاردن، بالنفي وتوضيح انّ هذا الكلام لم يصدر عن البابا الذي شجب العنف ودعا مرات كثيرة الى الصلاة من أجل مصر ووقف دوامة العنف فيها. لكنه لم ينزل- وليست هذه لغة الانجيل والكنيسة- الى مستوى التهديد واتباع سياسة بائدة تقول: العين بالعين والسن بالسن.
ويطيب هنا التذكير بما قاله البابا الأحد الماضي أمام جموع غفيرة: « المسيحي ليس عنيفاً وليس العنف سيّده، لكنه بذات الوقت قوي، وقوته كامنة بالمحبة والوداعة».
امّا البابا تواضروس الثاني الذي جلس على كرسي مرقس الشهيد، فيدرك تماماً حساسية موقعه وموقفه، وانّ بإمكانه أن ينزل جماهير غفيرة الى الشوارع لاشباع رغبات الانتقام وزرع الاحقاد، لكنه لم يذهب الى ذلك « السوق الكلامي»، بل طلب من أبناء كنيسته الصلاة «من أجل كل مواطن مصري ليكون درعاً لحماية الوطن من كلّ إرهاب ومن كلّ عنف».
أما الكنيسة الكاثوليكية في مصر، فأوضحت موقفها ببيان وقعه رئيس الكنائس الكاثوليكية البطريرك اسحق ابراهيم بيّن فيه بخمس نقاط الموقف الواضح والصريح، من خلال التأكيد، أولا: على المساندة القوية والواعية والحرّة لكل مؤسسات الدولة، وخصوصا الشرطة المصرية والقوات المسلحة. وثانيا: تقدير موقف الدول المخلصة التي تتفهم طبيعة مجريات الأمور، والرفض الصريح لأي محاولة للتدخل في شأن مصر الداخلي. وثالثا: شكرت الكنيسة وسائل الإعلام المصرية والأجنبية التي تنقل الأخبار والأحداث بموضوعية ونزاهة، كما أدانت الإعلام الذي يروّج الأكاذيب ويزيف الحقيقة، بهدف تضليل الرأي العام العالمي. ورابعا: شكر البيان شركاء الوطن الاخوة المسلمين الشرفاء الذين وقفوا إلى جانبهم، على قدر ما استطاعوا، للدفاع عن الكنائس والمؤسسات. وخامسا: خاطب البيان الضمير العالمي وكل مسؤولي الدول أن يدركوا تماما ويصدقوا أن ما يحدث في مصر الآن ليس صراعا سياسيا بين فصائل مختلفة، إنما هو حرب كل المصريين ضد الإرهاب.
هذا هو الموقف العقلاني والمشرّف لكنائس مصر، والتي نحييها كاملة، على صبرها وصوت العقل لديها. ولدينا في الأردن، وكما هو شـأن الاردنيين دائما، لم تحظ عمليات الهجوم على الكنائس بايّ تأييد، اللهم الا من بعض الاقلام التي انزلقت تضع اللوم على الأقباط، بسبب موقفهم الوطني الصادق، فقال اصحاب تلك الاقلام بالتشفي وبشرعية ما تعرّضت له الكنائس، الا انّ هذا الكلام قد تم رفضه رفضاً كاملاً على مواقع التواصل الاجتماعي وبالأخصّ من خلال الردّ على مهاترات أحد ( الدكاترة) في واحدة من أعرق الجامعات الاردنية.
بدون شك، المنطقة بحاجة الى أصوات العقل والتهدئة وتحييد الأماكن الدينية من الصراعات السياسية، ولسنا بحاجة أبداً الى من يشعلون نار الأحقاد هنا وهناك.
صوت العقل… زينة، أليس كذلك ؟
مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والاعلام
Abouna.org@gmail.com