من بين سائر ردود الفعل الإقليمية والدولية المتعلقة بالتطورات عميقة الغور الجارية في مصر، بدا رد الفعل الأميركي أكثر تلك الردود استعصاءً على الفهم وإثارة للجدل، وموضعاً للتساؤلات المتعلقة بأفضليات واشنطن الشرق أوسطية، وجديد خياراتها الاستراتيجية في زمن “الربيع العربي”، لاسيما أن الإدارة الأميركية بدت مصدومة؛ مرتبكة وقليلة الحيلة، حيال خسارة الإخوان المسلمين لسدة الحكم في أكثر بلاد العرب أهمية.ولعل التساؤل الأول الذي تقدم كل التساؤلات كان يدور حول ماهية تلك المصالح التي تدفع بلداً في وزن الولايات المتحدة -حين تقف على عتبة الاختيار بين الجيش المصري و”الإخوان”– إلى الانحياز نحو الجماعة التي خرجت من تحت عباءتها الواسعة معظم حركات التطرف والإرهاب، معرّضة حجر الزاوية في سياسات أميركا الإقليمية لاهتزازات قد تفضي إلى انهيار محتمل في منظومتها الاستراتيجية.أما التساؤل الثاني، فهو يتصل بسر أسرار كل هذه الحماسة الأميركية، الفائضة عن الحد، لاستمرار حكم الإخوان المسلمين؛ كما يدور حول أسباب جزع واشنطن من فشل تجربة الحلفاء الجدد في السلطة. إذ نتساءل حقاً: ما هي المُثل والمشتركات القيمية بين دولة الدستور والقانون الأولى في العالم الحديث، وبين حركة أصولية ذات ميول استبدادية، ترى الديمقراطية بدعة وضلالة غربية، ولم تتمكن بعد من التصالح مع مفهوم الدولة، ولا تقر بمبدأ المواطنة وتداول السلطة؟غير أن التساؤل الثالث يبدو أشد إلحاحية من سابقيه، وهو يدور حول بلاهة هذا الإعجاب الأميركي خصوصاً، والغرب عموماً، بأداء “الإخوان” في الحكم، رغم كل الفشل المقنطر الذي تراكم في غضون سنة واحدة فقط، وكل هذه الإخفاقات المروعة في إدارة شؤون البلاد والعباد، فضلاً عن التقلبات بين واشنطن وطهران، والكذب في كل شيء على رؤوس الأشهاد، والتحالفات شبه المعلنة مع منظمات الإرهاب، وغير ذلك الكثير مما لا يتسع له المقام.ندرك جيداً أن مركز الاهتمام الأول لدى أميركا يدور حول الحفاظ على مصالح إسرائيل، وينصبّ على تعزيز أمنها وزيادة درجة تفوقها على محيطها الجغرافي، الأمر الذي يبرر التساؤل مجدداً حول ما إذا كان “الإخوان” قد قدموا التزامات تفوق التعهد باستمرار معاهدة السلام القائمة مع إسرائيل، ومنع “الاعتداءات” من قطاع غزة (بحسب المفردة المعيبة في اتفاق التهدئة الذي ضمنه الرئيس المعزول). وفوق ذلك، ما هي حقيقة الصفقة التي التزمت بها “الجماعة” للبيت الأبيض وظلت في كنف المستور؟قد لا يعلم الرئيس الأميركي الذي أعاد تأليب الرأي العام العربي ضد بلاده، بعد أن أخفقت واشنطن في العراق أولاً، ثم في سورية ثانياً، وحدّث ولا حرج عن إخفاقاتها المستمرة في حل الصراع الدائر في فلسطين، أن تعاطيه الاستفزازي مع الأزمة الراهنة في مصر سوف يؤجج الغضب العربي ويشحنه بكل الانفعالات ضد الدولة التي ظلت تسائل نفسها “لماذا يكرهوننا؟” منذ واقعة 11 أيلول (سبتمبر) 2001.إذ ما الذي سيعود على أميركا جراء انحيازها المفرط لصالح حكم أسقطته ثورة شعبية عارمة في بلاد النيل، غير تعميق الشكوك بصدقية القيم والمبادئ الأميركية المعلنة؟ وما الذي يجنيه حامي حمى الديمقراطية عندما لا يقيم وزناً لخيارات الملايين المصرية، ويلوّح بقطع المعونة الأميركية، وأكثر من ذلك يتجاهل معامل الارتباط القائم بين “اعتصامات” الإخوان المسلمين في القاهرة وإرهاب الجماعات المتطرفة في سيناء، حتى إن خطابه المصري يكاد يتطابق مع كلام طهران و”طالبان” دون حرج؟إزاء ذلك كله، فإنه يمكن فك شيفرة كل هذه الألغاز الأميركية الخاصة بالأزمة المصرية، وفهم مغزى كل هذا الانحياز لجماعة تغامر بإسقاط الدولة وشق الجيش، وتجاهر بعدائها التاريخي لإرث جمال عبدالناصر الذي بعث الروح القومية والوطنية المصرية بعد سبات طويل. إذ تخشى أميركا على ما يبدو، كما “الإخوان”، من ظهور ناصر جديد، يعمل على إنهاض مصر من عثرتها الطويلة، ويعيد لها عافيتها، ومكانتها، ودورها القاعدي، ومن ثم تخليص “الربيع العربي” من كل ما لحق به من شوائب وشكوك وانحرافات.