لا يخلو مجتمع من المجتمعات من قضايا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو أمنية، لكن المجتمع الناضج دائمًا ما يلتفت إلى قضاياه، باحثًا عن كل الممكنات والحلول للقضاء عليها أو الحد منها من آثارها وانعكاساتها خوفًا من استفحالها، ومجتمعنا واحد من بين هذه المجتمعات الذي لا يزال يعاني من قضايا اجتماعية واقتصادية وثقافية تهدد هويته وقيمه ومبادئه بسبب المد الإعلامي الفضائي الذي استغلظ غثه على سمينه، وسط غياب واضح للرقابة الأسرية لدى الكثير من الأسر، ما جعل المجتمع منقسمًا بين فسطاطين: فسطاط ملتزم ومحافظ على الهوية والقيم والمبادئ والعادات والتقاليد ويرفض كل غثٍّ ومنافٍ للقيم والمبادئ والعادات والتقاليد تحمله تيارات العولمة والتغريب والتدمير، وفسطاط ملأ الغثُّ خواءه المعرفي والثقافي والفكري، فأصبح منقادًا متمسكًا به، ومقلدًا وتابعًا، بل وينافح عنه.
وفي الوقت الذي يفترض أن يبرهن فيه المجتمع على نضجه عبر وسائله الإعلامية ومؤسساته الاجتماعية والدينية بالتركيز على قضاياه الاجتماعية ومعالجتها، ويُقيم حصون الحماية والوقاية، ويبني أسوار التوعية لتحصين النشء والشباب من مخاطر ما يبيَّت ضد هذه الأمة من قبل أعدائها، نجده يدخل مرحلة أعمق وأخطر وأعقد، ألا وهي مرحلة المراهقة السياسية، فلم يصبح الحديث في السياسة لأهل السياسة، ولا الحديث في الدين والفقه لعلماء الدين والفقه، حيث تحول الجميع إلى محللين سياسيين ومتحدثين في السياسة، فالكل يكاد ترك مجال عمله واشتغاله وتخصصه.
لا ننكر أن الإعلام الفضائي قد لعب دورًا كبيرًا وخاصة بعض القنوات العربية في تقسيم الدول العربية وشعوبها إلى فساطيط، من خلال برامجها الحوارية التي تأتي في العادة بضيوف غير متفقين في الرأي والفكر وتحرش بينهم ليتناطحوا فيما بينهم لدرجة السباب والشتم ليتطور فيما بعد إلى العراك، ومن خلال دعمها لفوضى ما يسمى “الربيع العربي”، والتستر بقناع مساندتها للحريات، ما جعلها تنجح في السيطرة على فكر وعقل المشاهد وغسلهما وتغييب وعيه، فأصبح لا يرى حرية للإعلام إلا فيها، ولا حقيقة لما يجري من أحداث إلا ما تنقله هي إليه، وتحولت مصدرًا موثوقًا بالنسبة له، دون تمييز ووعي لاتجاهات هذه القنوات والخط السياسي للحكومات المالكة لها، ومحاولة الوقوف على أسباب استقالات مذيعيها، وفرز حقائق الأحداث بمقارنتها مع ما تبثه قنوات أخرى.
للأسف هذا التأثير لم يقتصر على تبني قطاع عريض من المشاهدين ما تبثه هذه القنوات على أنه الحقيقة الثابتة، على المستوى الفردي والقناعة الشخصية، وإنما امتد إلى خطب صلاة الجمعة لتخرج من طابعها الديني القائم على اختيار حكم شرعي والتركيز عليه وتوعية المصلين به، أو اختيار قضية اجتماعية معاصرة وتبصير المصلين بمخاطرها وانعكاساتها، وضرورة معالجتها، إلى طابع سياسي متناولةً شأنًا داخليًّا في دولة أخرى، انقسم فيه شعبها إلى فسطاطين، فظهرت بمظهر داعم لطرف ضد طرف، في تجاهل واضح لحالة الانقسام البيِّنة بين رعايا تلك الدولة، وفي خروج لا لزوم له عن النهج السياسي للسلطنة المتعقل والحكيم الرافض للتدخل في الشأن الداخلي للدول، والداعي إلى حل القضايا عبر الحوار وبالحكمة.
لقد كان لافتًا أثر الإعلام الفضائي المشبوه في تكريس مفاهيم سياسية وتوجهاته لدى بعض عوام الناس وخاصتهم، تعج بها مواقع التواصل أو بالأحرى الانفصال الاجتماعي، على أشكال تغريدات ومساهمات تعبر عن رأي شخصي ووجهة نظر من جانب واحد، إلا أن ما يبعث على الغرابة هو أن تضمن خطب الجمعة هذه التغريدات والمساهمات الشخصية وتُطعَّم بها، وكم كان حجم الدهشة التي انتابت المصلين وهم يسمعون مضمون الخطبة ما قد وصلهم وقرأوه في مواقع “التواصل” الاجتماعي.
إن هذا الاستنكار لا يقلل في الواقع من الدور الذي تؤديه الجوامع والمساجد، سواء من خلال خطب الجمعة أو المحاضرات التوعوية والتثقيفية، غير أن هذا التقليد الجديد في أسلوب الخطب بما يتعارض مع النهج السياسي للدولة المتعقل والمتسامح، والإقحام في قضايا داخلية تخص أشقاء أو أصدقاء آخرين خاصة وأنها محل خلاف بينهم، ولا يزال يكتنفها الكثير من الغموض والعور، وعدم تركها لذوي الاختصاص إن لزم التدخل، لا يتفق والكثير من القضايا التي لا تزال تشغل بال مجتمعنا، فضلًا عن أن العمانيين أنفسهم منقسمون في توجهاتهم وآرائهم حول الأحداث الجارية في بعض الدول العربية، أو ما تسمى بدول “الربيع العربي”، وبالتالي خروج خطبة الجمعة عن المألوف سيكرس هذا الانقسام الذي ستكون له تبعاته على بلادنا حاضرًا ومستقبلًا.
يجب أن لا يفهم من استنكاري أنني أمارس الوصاية أو أحجر على رأي أحد، فالناس فيما يعتقدون مذاهب، لكن ينبغي أن يكون الرأي في إطاره العقلاني بعيدًا عن العواطف والشحن والتحريض، والانجرار وراء المغرضين من السياسيين ووسائل الإعلام المشبوهة، خاصة وأن الأمة تمر بمرحلة خطيرة تتطلب عقول العقلاء وحكم الحكماء، ورشد الرشداء.
خميس بن حبيب التوبي
khamisaltobi@yahoo.com