معارضة باردة تلك التي تقودها الفصائل والأحزاب الفلسطينية، ضد استئناف المفاوضات مع الإسرائيليين برعاية أميركية، وهذا لا يعود لضعفها، أو لعدم قدرتها على استنباط وسائل المعارضة، ولكن برودة تصديها لقرار استئناف المفاوضات يعود لعدة أسباب :
أولاً : لأنها غير قادرة على تجنيد وتجييش الفلسطينيين ضد المفاوضات، فالمفاوضات وسيلة نضالية لاستعادة الحقوق لا تقل أهمية عن الوسائل الكفاحية الأخرى ومكملة لها، وليست أداة مخجلة لتقديم التنازلات أمام العدو، فسيدنا محمد عليه السلام مارس المفاوضات مع المشركين، ولينين مارس المفاوضات مع كل أعداء الاشتراكية، وعبد الناصر وصدام حسين وحافظ الأسد فاوضوا الإسرائيليين والأميركيين، إذن المفاوضات ليست معابة وليست خيانة، والتحفظ عليها يجب أن يكون له أسبابه ويمكن وضع شروط لها لتصويب الاعتماد عليها، أو التصدي لها كخيار، وليس رفضها لدوافع مبدئية كما يحاول البعض تبرير رفضه لها، ولأنها كذلك لم تستطع الفصائل والأحزاب الفلسطينية التحريض ضد المفاوضات، كي تشكل عامل ضاغط على الرئيس الفلسطيني كي يتردد في التجاوب مع استئنافها، رغم أنه كسر قراراته السابقة، وشروط انعقادها، وخاصة فيما يتعلق بشرط وقف الاستيطان .
ثانياً : لأن المفاوضات سابقاً، وفي أغلب محطاتها حققت بعض النتائج الإيجابية، وها هي محطة واشنطن برعاية جون كيري وزير الخارجية، تفرض على العدو الإسرائيلي وعلى حكومة نتنياهو الاستعمارية الاستيطانية التوسعية والأكثر تطرفاً وتكسر قراراتها، وتطلق سراح بعض الأسرى القدامى المهمين رغم قتلهم لإسرائيليين خلال عمليات مسلحة، وهي نتيجة تم استقبالها بالترحاب والتقدير من قبل الجميع، حتى من قبل حركة حماس التي لم يستطع الناطقون بلسانها سوى الترحيب بخطوة إطلاق سراح أسرى ولو على مضض مرغمين على هذا الموقف، رغم رفضهم للمفاوضات، إلى جانب فصائل اليسار، وفصائل التيار القومي، ولذلك يمكن القول أن الرئيس الفلسطيني على الرغم من افتقاده لأوراق قوية، ولكنه وظّف ورقة المفاوضات لتحقيق مكسب مرئي ومعلن وبائن، وهو إطلاق سراح أسرى، إضافة إلى تحقيق مكسب جدي لا يقل أهمية عن إطلاق سراح أسرى، وإن كان ذلك غير مرئي، يتمثل باستمرار الحصول على الدعم المالي العربي الأوروبي الأميركي الياباني، لتغطية الرواتب واحتياجات السلطة المالية، فالصمود لا يتم بدعوات الرجاء والكلمات الإنشائية المنمقة، بل بعوامل أساسية في طليعتها المال وتوفير الاحتياجات، إضافة إلى عامل عدم التصادم مع الأميركيين، وهذه العوامل الثلاثة لا تستطيع المعارضة اليسارية والقومية والأصولية الفلسطينية، تجاوزها أو القفز عنها وإن تحاشت الاقتراب منها أو التعرض لأهميتها أو التقليل من قيمتها، لأن عدم تغطية احتياجات السلطة المالية سينعكس على الفصائل بعدم الحصول على مخصصاتها الشهرية وعلى رواتب المتفرغين من كوادرها.
ثالثاً: إن رفض المفاوضات كوسيلة وكخيار سيدفع باتجاه التفكير وضرورة العمل على اختيار الوسائل الكفاحية البديلة أو المرافقة، بدءاً من العمليات الاستثمارية لدى البعض إلى الكفاح المسلح لدى البعض الآخر إلى الانتفاضة المدنية لدى البعض الثالث، وفي كل الأحوال، قرار تثوير الشعب ودفعه إلى أتون المواجهة ليس قراراً إدارياً، بل هو قرار تمليه المعطيات والظروف والفرص والإمكانات، ويبدو أن الآخرين بما فيهم حماس، مثلهم مثل حركة فتح لا يرغبون وغير مستعدين للمغامرة باختيار وسائل مسلحة، فحركة فتح ملتزمة بالاتفاقات مع الإسرائيليين بالتهدئة، وحركة حماس كذلك عبر اتفاق ‘ تفاهمات القاهرة ‘، وإذا كانت حركة فتح من خلال أدوات حكومة رام الله الائتلافية تمنع الفصائل الأخرى من تنفيذ أي عمل كفاحي ضد الاحتلال، فحكومة حركة حماس الأحادية الحزبية في غزة لا يقل ردعها للفصائل الجهادية ضد أي عمل تقوم به ضد العدو الإسرائيلي، عما تفعله حكومة رام الله، فالحال من بعضه، خاصة وأن المزاج الشعبي غير مهيأ، وربما غير معبأ باتجاه انفجار انتفاضة شعبية مدنية واسعة ضد الاحتلال، على ضرورة ذلك وأهميته.