ليست تلك المحروسة المعروفة بتسامحها وقدرتها على تجاوز محنها من دون دماء أو قتل متبادل أو كراهية عميقة بين فئات شعبها
ليس ذلك وطني الذي أنتمي إليه وأحبه حد العشق فوطني لا يجيد استخدام الرصاص إلا عندما يوجه لصدور الأعداء خارج الحدود أما أن يوجهه أبناؤه لبعضهم البعض فذلك وطن غريب الملامح والقسمات
في الأسبوع المنصرم وفي هذه الزاوية حذرت الطرفين المتصارعين في المحروسة: السلطة الجديدة من تبني القوة في فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة وجماعة الإخوان المسلمين وأخواتها من قوى متحالفة معها من الاستمرار في لغة التحدي والاستفزاز والكف عن المطالبة بعودة ما تطلق عليه الشرعية ودعوتها إلى التفكير في الزمن الآتي وإعادة النظر في مشروعها السياسي
لم أكن وحدي من حذر. ثمة كتاب ومفكرون دعوا الطرفين إلى وقف كرة العنف التي توشك أن تتدحرج لتلقى بنيرانها على الوطن أرضا وشعبا وإمكانات لكن لم يكن واضحا أن أيا منهما على استعداد للتراجع ووقع ما أسميته ذات مرة في هذه الزاوية بالمحظور وهو الاقتتال الداخلي بين أبناء الوطن الواحد بينما النزاع في جوهره سياسي وهو ما يعني إمكانية التعامل معه بمهارات التفاوض ولكن يبدو أنه كان لدى الجماعة وأخواتها شعور بغطرسة القوة بعد أن صمدوا في الميدانين الشهيرين في مصر: رابعة العدوية شرق القاهرة والنهضة بالجيزة لمدة تقترب من الخمسة والأربعين يوما وأهدرت جهود بذلتها أطراف عربية بينها قطر والإمارات ودولية على رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي كان بوسعها لو تمت الاستجابة لها أن تحول دون تدفق دماء المصريين من دون تحديد من المسؤول ومن المتسبب
والمرء يتساءل ألم يكن لدى الجماعة وأخواتها بعض من العقلاء الذين يقدمون مصلحة الوطن وليس مصلحة بقائها في السلطة ليقبلوا بتقديم تنازلات يكون من شأنها أن توفر بيئة جديدة لاستمرارها جزءا فعالا من المنظومة السياسية دون أن تتعرض للبتر أو الإقصاء عبر أساليب متعددة منها إلى جانب ما جرى خلال الأيام الأخيرة إعلانها جماعة إرهابية وهو ما يضعها دوما تحت خانة قانون الطوارئ الأمر الذي يستوجب ملاحقتها ومطاردة قادتها ورموزها مثلما يحدث الآن
كما يتساءل المرء ألم يكن بوسع السلطة الانتقالية في المحروسة أن تفكر في بدائل غير اللجوء إلى خيار القوة لفض الاعتصامين وفي تقديري أنها كانت متاحة وكان يمكن أن تحقق النتائج المرجوة دون الانخراط في لغة الدم فهي لغة كريهة تثير الكراهية وتعمق الرغبة في الثأر وهو ما جرى بالفعل عندما تمادت عناصر من الجماعة في الهجوم على الكنائس وأقسام الشرطة وبعض المنشآت العامة والحكومية وقطع الطرق في عملية وصفت بأنها تأتي في مخطط لحرق مصر ردا على غياب مرسي والجماعة عن عرشها وفض اعتصام الميدانين رابعة والنهضة بالقوة
إن مصر في حاجة إلى فعل عاقل على نحو ضروري وملح حتى يتم وقف مسار الدم الذي بدأ يوم الأربعاء المنصرم ولا يكاد يتوقف يبدأ بالاتفاق على الكف عن أي عمليات عنف من هذا الطرف أو ذاك والأهم أن يتجنب رموز الجماعة وأخواتها عن أسلوب الاستفزاز والتحدي للسلطة القائمة فوفقا لمعايير القوة فهي لا تمتلك ما يمكنها من تحقيق انتصار حاسم سواء في المدى القصير أو المدى البعيد فضلا عن ذلك فإن إصرارها على هذا الخيار سيدفع دوائر عدة إلى محاولة محوها من الخارطة السياسية وهو أمر لن يكون في مصلحة استمرارها شفافة ومعافاة من سوء
وهنا أتفق مع المستشار محمود الخضيري وهو قاض مصري عارض بشدة نظام مبارك واختير رئيسا للجنة الشؤون القانونية في مجلس الشعب المنحل بعد فوزه في انتخابات 2010 والتي يطالب الجماعة بأن تعترف بخطئها وأخطاء سياسة القائمين عليها التي أسهمت بلا شك في الوصول إلى ما نحن فيه الآن وأعطت لخصومها الذرائع لفعل ما قاموا به وياحبذا لو أنهم أجروا انتخابات داخلية للحزب والجماعة تؤدي إلى اختيار قيادات أخرى غير التي وقعت على يدها هذه المجزرة التي راح ضحيتها كثير من شباب الجماعة كانت مصر في أشد الحاجة إلى مجهودهم للمساهمة في رقيها وتقدمها.
ويضيف الخضيري في رؤيته الموضوعية: إذا اعتبرنا ما جرى من فض الاعتصام بالقوة عملية جراحية خطيرة فإنها تحتاج من الطبيب الذي أجراها ومساعديه عناية فائقة في رعاية المريض ومتابعة الجرح بالمطهرات والضمادات مع بعض المسكنات التي تساعد في تخفيف الإحساس بالألم حتى يلتئم الجرح ويشفى المريض تماماً ويعود أفضل مما كان، وفي حالتنا هذه يكون ذلك بمحاولة استيعاب الجماعة كجزء من شعب مصر له ما لكل المصريين من حقوق وعليه ما عليهم من واجبات، وأنه لن يتم إقصاؤهم عن الحياة العامة، كما كان الأمر قبل ثورة ٢٥ يناير، حيث كان يطلق عليهم الجماعة المحظورة، وذلك اعترافاً بفضلهم في إنجاح هذه الثورة كما يجب البدء في ذلك بإغلاق جميع القضايا التي فتحت بعد ٣٠/٦ معهم ومع أنصارهم لأن هذه القضايا معروف أنها مختلقة والمقصود منها الضغط على الجماعة وعلى أنصارهم، أما وقد تحققت غاية الضغط بوسائل أخرى فلا داعي لهذه الوسيلة التي تسيء أول ما تسيء إلى القضاء الذي تظهره بمظهر الأداة التي يستعملها الحاكم لتنفيذ أغراضه.
ولاشك أن مثل هذه الخطوات من شأنها أن تخفف من الاحتقان الدموي المهيمن على المشهد السياسي بالمحروسة وأنا أقول ذلك من منطلق الانتماء إلى خانة ثورة الثلاثين من يونيو التي تعد امتدادا لثورة الخامس والعشرين سعيا إلى إطفاء كرة النار المشتعلة والتي لن تتوقف إلا بتجاوز وقائع الدم في الأيام الأخيرة حتى تعود لمصر عافيتها ولشعبها وحدته
إن مصر تصرخ وتتوجع وشعبها يئن من استمرار الأوضاع الطارئة التي تحد من حرية حركته وتقلص من شعوره بالأمن الذي بات مفقودا في مناطق عدة
السطر الأخير: يارب المحروسة محبوبتنا جميعا يسكنها الوجع والبكاء والدم فارفع عنها الابتلاء واستجب لدعاء وصرخات شعبها الذي كاد يسقط في مربع العنف والقتل المتبادل
يارب لا تترك شعبها وحده يواجه مصيره فهو في حاجة إلى عونك ومددك هبه السكينة والقدرة على استرجاع روحه
يارب مصر تلجأ إليك فانقذها وخذ بناصية شعبها