انفضت جلسة المفاوضات الأولى بين الطرفين الفلسطيني و”الإسرائيلي” والتي عقدت في العاصمة الأميركية واشنطن بعد الإقلاع الجديد لعملية التسوية إثر توقف دام لثلاثة سنوات متتالية، وقد خرج منها الطرفان المتفاوضان بابتسامات ملغومة أو محيّرة في أحسن الأحوال، على أن يتم نقل الجلسات القادمة من واشنطن إلى المنطقة، في عملية مكررة تم تجريبها أكثر من مرة خلال العقدين الماضيين من انطلاق عملية التسوية. فكلما كانت تستعصي تلك العملية كان يجري نقل العملية التفاوضية لواشنطن ومن ثم يتم إعادتها للمنطقة، ولكن الإعادة تتم هذه المرة مع وجود الأميركي اليهودي الأصل الصهيوني الليكودي القلب والمشاعر (مارتن إنديك) المنحاز بشكل مطلق لصالح السياسات التوسعية الصهيونية ولعمليات الاستيطان والتهويد، وبالتالي فإن فرص نجاح مفاوضات التسوية الراهنة التي يترأسها جون كيري ويشرف عليها في المنطقة (مارتن إنديك) تُعتَبَر ضئيلة وفق تقديرات معظم المراقبين والمتابعين.
الحالة إياها، ونقصد بها، حالة العودة مرةً تلو المرة وراء عملية تفاوضية غير متوازنة من قبل الطرف الفلسطيني، تُلخصُ منهج وداء التجريبية في الفكر والعمل السياسي الذي أنهك الساحة الفلسطينية، وهو منهج يبتعد كليًّا عن محاكاة الأمور بطريقة إبداعية تقود لاشتقاق نظري صحيح يعطي نتائجه ببناء الموقف العلمي والعملي المطلوب وفق تكتيكات ناجحة لا تضيع معها استراتيجيات العملية الوطنية الفلسطينية.
فالتجريبية منهج منحاز لصالح مقولة (لنجرب هذه المرة) وهي قاعدة ومنهج في العمل السياسي مرفوضة، لكنها للأسف باتت تتحكم في مسار العمل الفلسطيني، وباتت تتحكم أيضًا في مسارات العمل الداخلي الفلسطيني، وهو ما عزز من إيجاد الأسباب والمبررات لولادة حالة شعبية مبتعدة عن عموم الفصائل والأحزاب الفلسطينية، وعزوف القاعدة الشبابية عن الانخراط بالعمل الفلسطيني على مستوى القوى والأحزاب، وهو ما دفع بدوره مؤخرًا لتعزيز المقدمات التي دفعت لقيام نواة شبابية عنوانها حركة (تمرد) في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس.
في هذا السياق، وفي مسار الاستعصاءات التي زادت من حدة الأزمة العامة في الفكر والعمل السياسي الفلسطيني، ومع ما يجري في المنطقة العربية، بدا شعار “الشعب يريد إسقاط الفصائل” محببًا ومرفوعًا من قبل بعض قطاعات الشعب الفلسطيني، وتحديدًا قطاعات الشباب الصاعد، التي أطلقت حناجرها تردد هذا الشعار بكثافة غير مسبوقة خلال التحول الذي وقع في تونس قبل ثلاثة أعوام مضت، وانتهى الأمر بهذا الشعار ليتحول للأسف من مطلب ذي محتوى ديمقراطي (كما يفترض به) إلى منصة تحريض وشحن وتوتير وتسعير وإدامة للانقسام الداخلي المسيطر على البيت الفلسطيني منذ عدة سنوات، وليصبح الشعار إياه طرازا أو موضة (صرعة) تم استيرادها من وحي ما بات يسميه البعض بثورات “الربيع العربي” لا أكثر ولا أقل…؟
ومع هذا، وحتى نتكلم بصراحة ووضوح ودون مجاملات أو لف ودوران، يفترض بنا أن نقول إن شعار “الشعب يريد إسقاط الفصائل” يصبح بالضرورة “شعارًا عدميًّا، ضارًّا وكارثيًّا” وبعيدًا عن روحية النقد البناء والهادف لإحداث تطور ملموس في الفكر والعمل السياسي الفلسطيني انطلاقًا من قراءة التجربة وتمحيصها والبناء عليها، خاصة حين يراد له أن يشق طريقه بمنطق القوة، وإعمال “العضلات” بدلًا من إعمال العقل النقدي في صفوف الناس لتحشيدها وتعبئتها حول الفكرة النبيلة التي يحملها الشباب الفلسطيني وعموم الناس.
فالموقف النقدي الجدي السياسي والعملي والمنتج والمتمعن بأزمات الفكر والعمل السياسي الفلسطيني، يقتضي الابتعاد عن استغلال وتجيير وتثمير حالات التذمر السائدة لدى قطاعات الشباب الفلسطيني من عموم الفصائل (وهي حالة محقة على كل حال بشكل أو بآخر) من قبل البعض، لصالح بناء موقف نقدي يراكم نفسه في صفوف الناس ويدفع نحو فتح الطريق أمام فتح دروب التطور في العمل السياسي الفلسطيني، وفي تطوير الفكر والرؤية والبرامج وبناء البديل الديمقراطي في الساحة الفلسطينية، وهو البديل المنشود لتخليص الساحة الفلسطينية من الإرث السلبي القديم الذي ما زالت غالبية الفصائل وقياداتها تلبس طربوشه لتبرير وجودها على حالها بالمعنى المتعلق بخمولها الفكري وتقاعسها في تطوير أدوات بحثها السياسية القائمة على إعمال العقل، حتى مضى عليها الزمن عتيًّا دون أن تغير حالها ودون أن تجدد نفسها وأدواتها وحتى رموز قياداتها، وهنا نتكلم بالعام على المستوى الفلسطيني دون تخصيص لجهة حزبية أو فصائلية دون غيرها.
وخلاصة القول، ودون مجاملات لطرف أو لغيره من الأطراف السياسية والحزبية والفصائلية في الساحة الفلسطينية، نقول إن طريق الارتقاء بالفكر والعمل السياسي الفصائلي يفترض الإقلاع عن منهج التجريب والتجريبية، واستيعاب دروس المراحل المختلفة، والبناء عليها في اشتقاق الرؤى والمواقف والتكتيكات السياسية بما في ذلك في إطار عملية التسوية المأزومة التي لا أفق لها ما دامت واقعة تحت سيف الضغط الأميركي والاشتراطات “الإسرائيلية”، وما دامت مبتعدة عن مرجعية الشرعية الدولية وقراراتها ذات الصلة.
كما أن الارتقاء بالعمل والفكر السياسي الفلسطيني، يؤدي بطبيعة الحال لتهذيب الخلافات والتباينات الداخلية في الساحة الفلسطينية، ويعمل على إرساء طريقة حضارية ديمقراطية في (صراع الأفكار) في الساحة الفلسطينية، فهذا الصراع هو صراع إيجابي وليس تناحريا عندما يتم بطريقة ديمقراطية طويلة النفس، وقد يقود على الأرجح إلى (تلاقح في الأفكار) التي تنتج بالضرورة الشيء النوعي الجديد، الذي يرفد الساحة الفلسطينية بالفكرة والموقف والعبرة، ويساعد على بناء التكتيكات السياسية والاستراتيجيات الناجحة، ويفتح الطريق واسعًا أمام تعاظم دور الشعب في صناعة القرار ليصبح دوره بناءً نقيضًا لمنطق التجريبية والتجريب المقيت، ونهج استبعاد رأي الناس والشارع العام.
علي بدوان
كاتب فلسطيني ـ مخيم اليرموك