إذا استمرت مواقف أطراف الأزمة في مصر كما هي عليه الآن، فسوف نحتاج إلى معجزة لكي نجتازها بسلام.
(1)
التطور «الإيجابي» الذي حدث خلال العشرة أيام الأخيرة مضت أننا انتقلنا من مرحلة إنكار الأزمة إلى الاعتراف بوجودها. لكن التباين بدا واضحا في أداء مختلف الأطراف إزاء كيفية الخروج منها. ففي حين دعيت بعض الشخصيات الأجنبية للتدخل في الأمر ومحاولة البحث عن مخرج، فإن بعض أصوات الداخل اختلفت في تكييف الأزمة والمخرج. فمن قائل إن البحث يدور حول صفقة، وآخر يتحدث عن وساطة، وثالث يلوح بفكرة المصالحة، ورابع يستبعد كل ما سبق ويحاول إقناعنا بأن الجهد المبذول له هدف واحد هو تبصير الإخوان وحلفائهم بأن ثمة وضعا مستجدا لا رجعة فيه، وعليهم أن ينطلقوا من التسليم بذلك، بما يعني أن مهمة الوسطاء أو المبعوثين استهدفت مخاطبة طرف دون آخر، وهو ما دعا بعض المحللين الغربيين إلى وصف المشهد الراهن في مصر بأنه «مرتبك» (روبرت فيسك في الإندبندنت البريطانية ــ 8/8).
أجواء الارتباك استصحبت حالة من البلبلة والحيرة روج لها الفلتان الإعلامي المشكوك في براءته. الأمر الذي فتح الباب لهجوم شرس على فكرة الديمقراطية والتعددية والوفاق الوطني، وهو ما اقترن بدعوات مبطنة وصريحة إلى الفاشية والإقصاء وفرض حالة الطوارئ وإعادة إنتاج حملة الحرب على الإرهاب. وهو ما دعاني في وقت سابق إلى طرح السؤال التالي: هل نقتل المعارضين في مصر أم لا؟ ــ (الشروق 4/8) ــ وهو سؤال من وحي المشهد العبثي الذي صرنا إليه، والذي استدعى إلى الواجهة مناقشة بعض البديهيات التي تبدو وكأنها محاولة لاختراع العجلة من جديد. ذلك أننا ما عدنا متفقين حول حق المختلف ليس في التعبير عن نفسه بل حقه في الوجود من الأساس. وما عدنا متفقين على مبدأ المصالحة الوطنية التي تتم على قاعدة التوافق وليس القهر والإملاء، بل إن بعضنا ــ بمن فيهم عدد غير قليل من المثقفين ــ أصبح يعتبر أن الشعب يضم فقط الذين عارضوا الدكتور محمد مرسي، وأن الذين أيدوه ليسوا من الشعب، الأمر الذي دعاني إلى التساؤل في أكثر من مقام ومناسبة إلى التساؤل عما إذا كنا راغبين حقا في العيش المشترك تحت سقف الوطن الواحد، أم أن هذه أصبحت مسألة تتعدد فيها الاجتهادات وتختلف وجهات النظر.
(2)
إذا جاز لنا أن نصف الوضع الراهن في مصر فسوف نرصد فيه الملامح التالية:
< بعد الاعتراف بوجود أزمة، فإن طرفيها ــ قيادة القوات المسلحة والإخوان ــ لا يزالان يتحركان بطلبات الحد الأقصى للخروج منها، القيادة العسكرية تتحدث عن ضرورة التسليم بما جرى والبناء عليه، مستندة لذلك إلى شرعية الحشود الرافضة للدكتور مرسي وإلى قوتها الميدانية على الأرض. والإخوان ينطلقون من التأكيد على شرعية الدكتور محمد مرسي استنادا إلى نتائج الانتخابات الحرة التي أتت به، كما يتكئون على حشودهم الموجودة في الشارع منذ شهر ونصف الشهر. والحاصل أن القيادة العسكرية ما برحت تتحدث عن أنه لا تراجع «ولو إلى ملليمتر واحد» ــ عن خارطة الطريق التي تحدث عنها الفريق السيسي في بيان 3 يوليو الذي عزل فيه الرئيس مرسي. ومن ثم صارت تتمسك بأن المرونة والتراجع مطلوبان من الإخوان وحدهم.
< في الوقت ذاته فمظاهر الارتباك واضحة في الجانب المتعلق بالسلطة. ففي حين يتحدث الدكتور محمد البرادعي ــ نائب الرئيس ــ بلغة تصالحية تحاول احتواء الإخوان، ويتعرض جراء ذلك إلى هجوم شديد وصل إلى حد اتهامه بأنه أصبح يشكل خطرا على الأمن القومي، فإن جريدة «الشروق» خرجت علينا في 10/8 بتقرير ذكرت فيه أن التنسيق يتم على أعلى مستوى بينه وبين الفريق السيسي لتجنيب البلاد الانزلاق إلى الفوضى. وفي حين أعلنت رئاسة الجمهورية في 7/8 أن الجهود الدبلوماسية التي استهدفت التوسط بين الطرفين تمت بموافقة وتنسيق كامل مع الحكومة، فإن الدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء قال في تصريح منشور إن الحكومة لا علم لها بالموضوع. وفي حين قال بيان الرئاسة سابق الذكر إن مرحلة الجهود الدبلوماسية انتهت وحمَّل الإخوان مسؤولية فشل تلك الجهود فإن المتحدث باسم البيت الأبيض أعلن في 9/8 عن أن واشنطن ستواصل جهودها من أجل المصالحة والتسوية في مصر.
< نلاحظ ذلك الارتباك أيضا في الجانب المتعلق بالإخوان والتحالف الذي تشكل للدفاع عن الشرعية. فالمؤيدون المعتصمون في محيط رابعة وميدان النهضة يطالبون تارة بعودة الدكتور مرسي إلى منصبه، ويتحدثون تارة أخرى عن الدفاع عن الإسلام ويعربون عن الاستعداد لتقديم مليون شهيد لأجل ذلك. وفي حين ثالثة يعلنون أنهم يدافعون عن الديمقراطية. وفي هذا وذاك فإنهم يرفضون الاعتراف بالأمر الواقع ولا يقدمون بديلا، رافضين الاعتراف بأمرين هما: تراجع شعبية الإخوان وخسارة جولة المواجهة مع قيادة القوات المسلحة التي قامت بالانقلاب مؤيدة في ذلك من جانب نسبة عالية من التأييد الشعبي.
< حضور قيادة القوات المسلحة في قلب المشهد السياسي ووراء أهم قراراته، الأمر الذي يمثل طورا جديدا وخطيرا في مجمل أدائه. وليست هذه هي النقلة الوحيدة، لأن الجيش حين تدخل في ظل الانقسام الوطني فإنه صار منحازا لأول مرة إلى جانب طرف دون طرف آخر. وهو ما أفقده حياده التقليدي والتاريخي.
< بوسع المراقب أيضا أن يلاحظ بروز تيار إقصائي واستئصالي في هيكل السلطة الجديدة ــ وتشير مختلف القرائن إلى أن ذلك التيار له وجوده المؤثر في ثلاث دوائر على الأقل هي: في محيط قيادة القوات المسلحة ذاتها ــ عناصر جهاز أمن الدولة القديم الذي أعلن وزير الداخلية عن إعادة عناصره إلى مواقعهم التي كانوا قد استبعدوا منها ــ أوساط فلول النظام القديم المنتشرون في مفاصل الدولة ووسائل الإعلام إضافة إلى حضورهم المؤثر في المجال الاقتصادي.
< استند النظام الجديد إلى تأييد شعبي واسع لا ريب، لكنه من الناحية المؤسسية أصبح يتكئ على تحالف معلن بحكم الأمر الواقع بين العسكر وبين قطاع عريض من القوى المدنية والليبرالية، التي أدركت أنه ما كان لها أن تستعيد نفوذها في إدارة البلاد بدون مساندة وتدخل القوات المسلحة، خصوصا أنها أصبحت مقتنعة بأنها ليست مؤهلة بعد للفوز في الانتخابات البرلمانية، ولم يعد سرا أن الطرفين يحظيان بتأييد غير معلن ــ بل معلن أحيانا ــ من جانب أركان وأعوان نظام مبارك.
(3)
هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول إننا إزاء طريق مسدود ومشكلة لا حل لها. ذلك أن دعوات الحوار أو المصالحة تفترض استعداد الأطراف المختلفة لتبني قدر من المرونة في مواقفها وذلك مستبعد تماما من جانب قيادة القوات المسلحة، كما سبقت الإشارة، فضلا عن أنه مشكوك فيه فيما خص الإخوان. وحين يطالب طرف بالمرونة في حين يبارك تصلب وتشدد طرف آخر، فإننا نكون بصدد دعوة للإخضاع والإذعان. ويزداد الأمر صعوبة إذا ما تمسك كل طرف بورقة الشرعية التي يستند إليها معتبرا أنها الأصل والأساس، وأن شرعية الآخر إما منسوخة أو غير معترف بها.
إن المسؤولين في الوضع المستجد يتحدثون عن حوار لا يقصي أحدا، لكننا نلاحظ أن ممارسات الواقع تمضي باتجاه معاكس تماما فلا شروط نجاح الحوار متوافرة ولا أجواءه مواتية. ذلك أنه إذا كان مطلوبا من الطرف الآخر الانصياع والتسليم بكل ما تم، فإن «الحوار» يصبح محسوما قبل أن يبدأ ومن ثم لا تكون هناك حاجة إليه. ثم إن الحوار لا يمكن أن يكتب له النجاح أو يكون له أي مردود إيجابي في حين تتم شيطنة الطرف الآخر ليل نهار في وسائل الإعلام، كما أن رموزه موزعون على مختلف السجون وجميعهم نسبت إليهم تهم ملفقة من ذلك القبيل الذي خبرناه في زمن دولة مبارك البوليسية. بكلام آخر فإن الحوار يفقد معناه إذا كان أحد طرفيه فاقدا لحريته ويتعرض للقمع والاغتيال السياسي والمعنوي من جانب أجهزة الأمن وميليشيات الإعلام. وذلك ما أعنيه بالنسبة للأجواء المواتية. إذ غني عن البيان أن الحوار ينبغي أن تسبقه إجراءات لتبادل الثقة ومبادرات لحسن النية، تتكئ على وقف الإجراءات البوليسية والقمعية، ووقف حملات التحريض والتشويه الإعلامية.
(4)
لا نبالغ إذا قلنا إننا في ظل الظروف الراهنة، فإن أي حوار بين الإخوان والعسكر محكوم عليه بالفشل. لأن نقطة الانطلاق التي يبنى عليها كل طرف موقفه من الشرعية مرفوضة بالكامل من الطرف الآخر. فالإخوان يرفضون فكرة الإقرار بخروج الرئيس مرسي من المشهد، والعسكر يرفضون أي حضور رمزي ومؤقت له، حتى إذا كان الهدف منه تفويض رئيس الحكومة في سلطاته، كما اقترحت بعض المبادرات. وهو ما يضعنا بإزاء معادلة صفرية، ينفي بمقتضاها كل طرف الآخر، ولا يجد نفسه مضطرا لأن يقدم أي تنازل له.
يزداد الموقف تعقيدا وصعوبة إذا أدركنا أن عمق الاستقطاب في مصر كاد يلغي وجود أي مؤسسة مستقلة تقف خارج الاستقطاب يمكن أن نقوم بالوساطة بين الطرفين. صحيح أننا لا نعدم أناسا مستقلين ومحترمين، ولكن هؤلاء ليس لهم وضع مؤسسي يؤهلهم للقيام بهذا الدور. وأغلب الظن أن هذا الاعتبار يكمن وراء حرص بعض أركان السلطة في مصر على دعوة شخصيات من خارج مصر لمحاولة مد الجسور وتيسير الحوار بين الطرفين، بما يكفل التوصل إلى هامش المرونة المقبول والمحتمل من جانب كل طرف.
على صعيد آخر فإننا يجب أن نعترف بصعوبة الموقف في ظل خصوصية الحالة المصرية، لأن الحوار المفترض لا يجرى بين سياسيين، حيث الطرف الآخر فيه هو قيادة القوات المسلحة التي تمثل مركز القوة في السلطة. وهو ما يقربنا من الحالة الجزائرية التي أغلق في ظلها باب الحوار وأصر الجيش على إخضاع جبهة الإنقاذ الفائزة في الانتخابات، الأمر الذي أدى إلى انفلات الموقف. وأسفر عن سقوط أكثر من ربع مليون قتيل في نهاية المطاف. وهو ما أرجو أن تكون جماعتنا على وعي به.
إذا استمرت مواقف أطراف الأزمة في مصر كما هي عليه الآن، فسوف نحتاج إلى معجزة لكي نجتازها بسلام.
(1)
التطور «الإيجابي» الذي حدث خلال العشرة أيام الأخيرة مضت أننا انتقلنا من مرحلة إنكار الأزمة إلى الاعتراف بوجودها. لكن التباين بدا واضحا في أداء مختلف الأطراف إزاء كيفية الخروج منها. ففي حين دعيت بعض الشخصيات الأجنبية للتدخل في الأمر ومحاولة البحث عن مخرج، فإن بعض أصوات الداخل اختلفت في تكييف الأزمة والمخرج. فمن قائل إن البحث يدور حول صفقة، وآخر يتحدث عن وساطة، وثالث يلوح بفكرة المصالحة، ورابع يستبعد كل ما سبق ويحاول إقناعنا بأن الجهد المبذول له هدف واحد هو تبصير الإخوان وحلفائهم بأن ثمة وضعا مستجدا لا رجعة فيه، وعليهم أن ينطلقوا من التسليم بذلك، بما يعني أن مهمة الوسطاء أو المبعوثين استهدفت مخاطبة طرف دون آخر، وهو ما دعا بعض المحللين الغربيين إلى وصف المشهد الراهن في مصر بأنه «مرتبك» (روبرت فيسك في الإندبندنت البريطانية ــ 8/8).
أجواء الارتباك استصحبت حالة من البلبلة والحيرة روج لها الفلتان الإعلامي المشكوك في براءته. الأمر الذي فتح الباب لهجوم شرس على فكرة الديمقراطية والتعددية والوفاق الوطني، وهو ما اقترن بدعوات مبطنة وصريحة إلى الفاشية والإقصاء وفرض حالة الطوارئ وإعادة إنتاج حملة الحرب على الإرهاب. وهو ما دعاني في وقت سابق إلى طرح السؤال التالي: هل نقتل المعارضين في مصر أم لا؟ ــ (الشروق 4/8) ــ وهو سؤال من وحي المشهد العبثي الذي صرنا إليه، والذي استدعى إلى الواجهة مناقشة بعض البديهيات التي تبدو وكأنها محاولة لاختراع العجلة من جديد. ذلك أننا ما عدنا متفقين حول حق المختلف ليس في التعبير عن نفسه بل حقه في الوجود من الأساس. وما عدنا متفقين على مبدأ المصالحة الوطنية التي تتم على قاعدة التوافق وليس القهر والإملاء، بل إن بعضنا ــ بمن فيهم عدد غير قليل من المثقفين ــ أصبح يعتبر أن الشعب يضم فقط الذين عارضوا الدكتور محمد مرسي، وأن الذين أيدوه ليسوا من الشعب، الأمر الذي دعاني إلى التساؤل في أكثر من مقام ومناسبة إلى التساؤل عما إذا كنا راغبين حقا في العيش المشترك تحت سقف الوطن الواحد، أم أن هذه أصبحت مسألة تتعدد فيها الاجتهادات وتختلف وجهات النظر.
(2)
إذا جاز لنا أن نصف الوضع الراهن في مصر فسوف نرصد فيه الملامح التالية:
< بعد الاعتراف بوجود أزمة، فإن طرفيها ــ قيادة القوات المسلحة والإخوان ــ لا يزالان يتحركان بطلبات الحد الأقصى للخروج منها، القيادة العسكرية تتحدث عن ضرورة التسليم بما جرى والبناء عليه، مستندة لذلك إلى شرعية الحشود الرافضة للدكتور مرسي وإلى قوتها الميدانية على الأرض. والإخوان ينطلقون من التأكيد على شرعية الدكتور محمد مرسي استنادا إلى نتائج الانتخابات الحرة التي أتت به، كما يتكئون على حشودهم الموجودة في الشارع منذ شهر ونصف الشهر. والحاصل أن القيادة العسكرية ما برحت تتحدث عن أنه لا تراجع «ولو إلى ملليمتر واحد» ــ عن خارطة الطريق التي تحدث عنها الفريق السيسي في بيان 3 يوليو الذي عزل فيه الرئيس مرسي. ومن ثم صارت تتمسك بأن المرونة والتراجع مطلوبان من الإخوان وحدهم.
< في الوقت ذاته فمظاهر الارتباك واضحة في الجانب المتعلق بالسلطة. ففي حين يتحدث الدكتور محمد البرادعي ــ نائب الرئيس ــ بلغة تصالحية تحاول احتواء الإخوان، ويتعرض جراء ذلك إلى هجوم شديد وصل إلى حد اتهامه بأنه أصبح يشكل خطرا على الأمن القومي، فإن جريدة «الشروق» خرجت علينا في 10/8 بتقرير ذكرت فيه أن التنسيق يتم على أعلى مستوى بينه وبين الفريق السيسي لتجنيب البلاد الانزلاق إلى الفوضى. وفي حين أعلنت رئاسة الجمهورية في 7/8 أن الجهود الدبلوماسية التي استهدفت التوسط بين الطرفين تمت بموافقة وتنسيق كامل مع الحكومة، فإن الدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء قال في تصريح منشور إن الحكومة لا علم لها بالموضوع. وفي حين قال بيان الرئاسة سابق الذكر إن مرحلة الجهود الدبلوماسية انتهت وحمَّل الإخوان مسؤولية فشل تلك الجهود فإن المتحدث باسم البيت الأبيض أعلن في 9/8 عن أن واشنطن ستواصل جهودها من أجل المصالحة والتسوية في مصر.
< نلاحظ ذلك الارتباك أيضا في الجانب المتعلق بالإخوان والتحالف الذي تشكل للدفاع عن الشرعية. فالمؤيدون المعتصمون في محيط رابعة وميدان النهضة يطالبون تارة بعودة الدكتور مرسي إلى منصبه، ويتحدثون تارة أخرى عن الدفاع عن الإسلام ويعربون عن الاستعداد لتقديم مليون شهيد لأجل ذلك. وفي حين ثالثة يعلنون أنهم يدافعون عن الديمقراطية. وفي هذا وذاك فإنهم يرفضون الاعتراف بالأمر الواقع ولا يقدمون بديلا، رافضين الاعتراف بأمرين هما: تراجع شعبية الإخوان وخسارة جولة المواجهة مع قيادة القوات المسلحة التي قامت بالانقلاب مؤيدة في ذلك من جانب نسبة عالية من التأييد الشعبي.
< حضور قيادة القوات المسلحة في قلب المشهد السياسي ووراء أهم قراراته، الأمر الذي يمثل طورا جديدا وخطيرا في مجمل أدائه. وليست هذه هي النقلة الوحيدة، لأن الجيش حين تدخل في ظل الانقسام الوطني فإنه صار منحازا لأول مرة إلى جانب طرف دون طرف آخر. وهو ما أفقده حياده التقليدي والتاريخي.
< بوسع المراقب أيضا أن يلاحظ بروز تيار إقصائي واستئصالي في هيكل السلطة الجديدة ــ وتشير مختلف القرائن إلى أن ذلك التيار له وجوده المؤثر في ثلاث دوائر على الأقل هي: في محيط قيادة القوات المسلحة ذاتها ــ عناصر جهاز أمن الدولة القديم الذي أعلن وزير الداخلية عن إعادة عناصره إلى مواقعهم التي كانوا قد استبعدوا منها ــ أوساط فلول النظام القديم المنتشرون في مفاصل الدولة ووسائل الإعلام إضافة إلى حضورهم المؤثر في المجال الاقتصادي.
< استند النظام الجديد إلى تأييد شعبي واسع لا ريب، لكنه من الناحية المؤسسية أصبح يتكئ على تحالف معلن بحكم الأمر الواقع بين العسكر وبين قطاع عريض من القوى المدنية والليبرالية، التي أدركت أنه ما كان لها أن تستعيد نفوذها في إدارة البلاد بدون مساندة وتدخل القوات المسلحة، خصوصا أنها أصبحت مقتنعة بأنها ليست مؤهلة بعد للفوز في الانتخابات البرلمانية، ولم يعد سرا أن الطرفين يحظيان بتأييد غير معلن ــ بل معلن أحيانا ــ من جانب أركان وأعوان نظام مبارك.
(3)
هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول إننا إزاء طريق مسدود ومشكلة لا حل لها. ذلك أن دعوات الحوار أو المصالحة تفترض استعداد الأطراف المختلفة لتبني قدر من المرونة في مواقفها وذلك مستبعد تماما من جانب قيادة القوات المسلحة، كما سبقت الإشارة، فضلا عن أنه مشكوك فيه فيما خص الإخوان. وحين يطالب طرف بالمرونة في حين يبارك تصلب وتشدد طرف آخر، فإننا نكون بصدد دعوة للإخضاع والإذعان. ويزداد الأمر صعوبة إذا ما تمسك كل طرف بورقة الشرعية التي يستند إليها معتبرا أنها الأصل والأساس، وأن شرعية الآخر إما منسوخة أو غير معترف بها.
إن المسؤولين في الوضع المستجد يتحدثون عن حوار لا يقصي أحدا، لكننا نلاحظ أن ممارسات الواقع تمضي باتجاه معاكس تماما فلا شروط نجاح الحوار متوافرة ولا أجواءه مواتية. ذلك أنه إذا كان مطلوبا من الطرف الآخر الانصياع والتسليم بكل ما تم، فإن «الحوار» يصبح محسوما قبل أن يبدأ ومن ثم لا تكون هناك حاجة إليه. ثم إن الحوار لا يمكن أن يكتب له النجاح أو يكون له أي مردود إيجابي في حين تتم شيطنة الطرف الآخر ليل نهار في وسائل الإعلام، كما أن رموزه موزعون على مختلف السجون وجميعهم نسبت إليهم تهم ملفقة من ذلك القبيل الذي خبرناه في زمن دولة مبارك البوليسية. بكلام آخر فإن الحوار يفقد معناه إذا كان أحد طرفيه فاقدا لحريته ويتعرض للقمع والاغتيال السياسي والمعنوي من جانب أجهزة الأمن وميليشيات الإعلام. وذلك ما أعنيه بالنسبة للأجواء المواتية. إذ غني عن البيان أن الحوار ينبغي أن تسبقه إجراءات لتبادل الثقة ومبادرات لحسن النية، تتكئ على وقف الإجراءات البوليسية والقمعية، ووقف حملات التحريض والتشويه الإعلامية.
(4)
لا نبالغ إذا قلنا إننا في ظل الظروف الراهنة، فإن أي حوار بين الإخوان والعسكر محكوم عليه بالفشل. لأن نقطة الانطلاق التي يبنى عليها كل طرف موقفه من الشرعية مرفوضة بالكامل من الطرف الآخر. فالإخوان يرفضون فكرة الإقرار بخروج الرئيس مرسي من المشهد، والعسكر يرفضون أي حضور رمزي ومؤقت له، حتى إذا كان الهدف منه تفويض رئيس الحكومة في سلطاته، كما اقترحت بعض المبادرات. وهو ما يضعنا بإزاء معادلة صفرية، ينفي بمقتضاها كل طرف الآخر، ولا يجد نفسه مضطرا لأن يقدم أي تنازل له.
يزداد الموقف تعقيدا وصعوبة إذا أدركنا أن عمق الاستقطاب في مصر كاد يلغي وجود أي مؤسسة مستقلة تقف خارج الاستقطاب يمكن أن نقوم بالوساطة بين الطرفين. صحيح أننا لا نعدم أناسا مستقلين ومحترمين، ولكن هؤلاء ليس لهم وضع مؤسسي يؤهلهم للقيام بهذا الدور. وأغلب الظن أن هذا الاعتبار يكمن وراء حرص بعض أركان السلطة في مصر على دعوة شخصيات من خارج مصر لمحاولة مد الجسور وتيسير الحوار بين الطرفين، بما يكفل التوصل إلى هامش المرونة المقبول والمحتمل من جانب كل طرف.
على صعيد آخر فإننا يجب أن نعترف بصعوبة الموقف في ظل خصوصية الحالة المصرية، لأن الحوار المفترض لا يجرى بين سياسيين، حيث الطرف الآخر فيه هو قيادة القوات المسلحة التي تمثل مركز القوة في السلطة. وهو ما يقربنا من الحالة الجزائرية التي أغلق في ظلها باب الحوار وأصر الجيش على إخضاع جبهة الإنقاذ الفائزة في الانتخابات، الأمر الذي أدى إلى انفلات الموقف. وأسفر عن سقوط أكثر من ربع مليون قتيل في نهاية المطاف. وهو ما أرجو أن تكون جماعتنا على وعي به.