رغم كل ما أفرزه “الربيع العربي” من مصاعب جمّة كانت متوقعة، وما أحاق به من تحديات قاسية غير مفاجئة، لم يتزعزع يقين نخبة واسعة من المفكرين والمثقفين العرب بأن هذا الحدث غير المسبوق في الحياة السياسية العربية المعاصرة، كان محطة فارقة بين زمنين مختلفين، وعتبة عريضة مفتوحة أمام تدفق جملة من التطورات الواعدة بغد تحل فيه قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان محل آفات الاستبداد والفساد والتبعية.وبالفعل، فقد أعلى هذا “الربيع” من شأن الإنسان العربي، وجلا صورته في مرآة نفسه، وكسر خوفه المعهود من الأجهزة الحكومية، بل وبدّل لديه مفهومه القديم عن الدولة، وصار جريئاً في باب المطالبة بحقوقه المهنية والسياسية أكثر من أي وقت مضى، وأشد رغبة في المشاركة بالحياة العامة، والتعبير عن آرائه إزاء انحراف الطبقة الحاكمة بصورة نقدية متزايدة، حتى إنه بات مواطناً مرهوب الجانب، يحسب المفتئتون عليه الحساب جيدا إذا ما راودتهم النزعة البوليسية بالحجر عليه أو الانتقاص من حقوقه.غير أنه في خضم هذا التحول الذي كرس قيم الحرية وطوبها كمنجز نهائي في الحياة السياسية، أعاد “الربيع العربي” إنتاج عدد من المظاهر السلبية، إن لم نقل أنه فاقمها أكثر من ذي قبل. الأمر الذي أثار الجزع لدى العامة من عقابيل هذا “الربيع” الساخن، وبث الشكوك أشد من السابق، حيال بعض مخرجات هذا التحول الواسع، خصوصاً لدى من اعتقدوا أن كلفة هذه المرحلة التأسيسية في حياة العرب سوف تكون طفيفة الثمن، وسريعة التحقق، لكأنها انقلاب عسكري أو أي فعل يشابه ذلك.فقد بدت حال شعوب بلدان “الربيع العربي”، عبر عامين ونيف، وكأنها حال من وقعوا في شرك ما سماه بعضهم مؤامرة دولية، لاسيما بعد أن تراجعت مستويات نموهم الاقتصادي، بل وازدادت مصاعب حياتهم اليومية، ناهيك عن شعورهم بفقدان الأمن الشخصي أكثر فأكثر، وبروز مظاهر الانقسامات الاجتماعية والعرقية والدينية على نحو لم يكن من قبل. وفوق ذلك، فاضت دماء كثيرة، واستعصت عملية استكمال المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية، وتبدل جدول الاهتمامات والأولويات ومراكز الثقل العربية.على أن أشد ما تلبد في سماء “الربيع العربي” من مظاهر مقلقة، كان قد تمثل في صعود الإسلام السياسي إلى صدارة المشهد، وفي قدراته التنظيمية الهائلة على احتواء الصورة الكلية، وإمساكه بزمام التطورات الداخلية هنا وهناك وهنالك، ومن ثم تمكنه من إقصاء الشركاء والتفرد بالمسؤولية، الأمر الذي بدا فيه الحركيون الإسلاميون وكأنهم قدر من أقدار “الربيع العربي” ولازمة من لزومياته، لا مفر من القبول به كرهاً وطواعية، وهو ما دفع بالكثيرين إلى القول إن هذا هو شتاء إسلامي ليس إلا.وبالمنظور التاريخي للتحولات الكبرى في حياة الأمم، وبمقاربة “الربيع العربي” إلى ما سبقه من ثورات عظيمة في السجل الإنساني، فقد كان متوقعاً لكل ذي نظرة تحليلية بعيدة المدى، أن يرافق هذا “الربيع” كل ما سبق ذكره من استحقاقات مؤلمة، ومن استعصاءات شديدة، أحسب أنها كانت أشد وطأة، وأطول مدى، وأكثر كلفة لدى الثورة الفرنسية مثلاً؛ إذ لا تجري الثورات الكبيرة على طول خط مستقيم، ولا تنتهي تفاعلاتها العميقة بين سنة وتاليتها، بل وقد تكون آلام مخاضها قاسية أكثر مما كان متوقعاً.يبقى أن من المرجح بقوة هو أن الثورات الكبيرة، ومن ضمنها “الربيع العربي”، قادرة مع مرور الزمن على تصحيح مساراتها بنفسها، والتخلص تدريجياً، وعبر التجربة الذاتية، من المظاهر السلبية التي تعلق بها بالضرورة الموضوعية. ولعل بواكير ما يجري اليوم في مصر وتونس، وهما مهد هذا “الربيع” المديد وبشارته، يشير إلى صحة هذا الافتراض المعزز بالشواهد الدالة على أن التحول عميق الغور في حياة شعوب هذه المنطقة قد أخذ في تقويم مساره، واسترداد هويته الحقيقية، كربيع لا يصح تسميته بخريف أو شتاء إسلامي، بل بربيع عربي القلب واللسان معاً.issa.alshuibi@alghad.jo