عروبة الإخباري – بعد فترة من الجفاف النسبي في المشهد السينمائي السوري، جاءت تجربة المخرج الشاب جود سعيد بفيلمه الروائي الطويل الثاني المعنون (صديقي الاخير) لتبدو في عرضها بمقر الهيئة الملكية الاردنية للافلام يوم الخميس الفائت شهادة ابداعية على قراءة الواقع واستشرافه.
يدور موضوع الذي كتبه المخرج والى جواره كاتب السيناريو الفارس الذهبي، وهناك حضور لافت للمخرج المخضرم عبد اللطيف عبد الحميد في دور رئيسي لافت يذكر بتجربته التمثيلية البديعة بفيلم (نجوم النهار) لاسامة محمد – في حارة دمشقية شعبية اناسها من الناس البسطاء والمهمشين امالهم محدودة وحراكهم ثابت بين جلسات المقهى وميكانيكي تصليح السيارات واستاذ المدرسة والعامل البسيط والمتقاعد يفاجئهم خبر انتحار طبيب معروف لديهم بانه كان يساعدهم في العلاج بلا اجر ويهتم بمعاناتهم وعلى خلفية الانتحار يجيء الى الحارة ضابط تحري هو صديق للطبيب للتحقيق في ظروف انتحاره التي جاءت عقب قيام الطبيب بجريمة قتل زوجته وهي في المستشفى بحسب نظرية الموت الرحيم ، وقبل اقدام الطبيب على الانتحار سجل جملة من الاشرطة لصديقه ضابط التحري عرض فيها جوانب من حياته ووضعها تحت تصرف الضابط الذي يتهيأ الى التقاعد. يستعرض الفيلم الذي اهداه مخرجه الى كل سوري وسورية، اجواء البساطة التي تصل الى حدود البراءة والطيبة في شخصية الضابط سواء في علاقته مع عائلته في احدى قرى الساحل السوري، او مع زملائه في العمل وانسانيته في اعتماد وسائل تحقيق لا تعتمد العنف شأن باقي زملائه والذي يصور الفيلم بان البعض منهم يسقطون في فخاخ الفساد والجشع والطمع والمصالح الشخصية والعلاقات المشبوهة. ويقدم الفيلم بعضا من تناقضات الواقع في الحارة من خلال تلك التعابير التي ترتسم على سلوكيات ووجوه تبدو انها ترنو العيش ومواصلة حياتها اليومية مهما كانت الوسيلة في حين ان ما تصوره الكاميرا هو جانب مرح ودعابات وبهجة وأمل رغم ما تعمل على اخفائه بين ثنايا الاحداث من ملامح حزن وأسى وخوف وخيبة.
قليلا ما تناولت افلام سينمائية هذه الوقائع بحفر وبناء داخلا معادلة العمل السينمائي الذي يبغي الكشف عن عوامل الإحباط الذي تعيشه أجيال مقبلة على الحياة باشراق وامل، الا ان ما يجري على الواقع يقودهم الى الانكسار أو الرضا بما تيسر لهم من نصيب مقابل تلك الهوة السحيقة التي تفصلهم عن الموت والضياع لدى سعيهم في الخروج والانعتاق عن الدائرة التي وجدوا انفسهم فيها وغدت قصة الطبيب ونجاحه أملا ولكن عبر انتحاره وغيابه المبكر تتالى الاسئلة والحكايات والقصص والصور والمفاجاءات التي تدور في ارجاء الحارة وفي مكتب الضابط الذي يحمل ملف تحقيق انتحار صديقه الطبيب.
بذل المخرج جود سعيد جهدا استثنائيا في رسمه لشخصيات فيلمه الرئيسة واضاف عليها شخصيات عابرة لكنها مؤثرة خصوصا في طرحه لقضية تبني ابنة الطبيب المنتحر من زوجته الفرنسية ورغبتها بان تظل في ماوى للايتام في دمشق عوضا عن محاولة السفارة الفرنسية تسفيرها الى طرف عائلة والدتها، قبل ان يجد الضابط نفسه بعد ان تسلم كتاب احالته على التقاعد يصطحب الفتاة للاقامة معه في قريته.
ويكشف العمل عن حساسية وأناقة في رسم مناخاته، وفي ادارته المدروسة لطاقم ممثليه في ادوار متفاوتة حيث معظمهم من وجوه الاعمال الدرامية التلفزيونية وغير معتادين على كاميرا السينما ونجحوا فعلا بهذا العمل وخاصة إدراكهم لمسألة اظهار حالات التوتر والقلق في نظرات وحركات والتدرج في طبقات الصوت اثناء الحوار في الفيلم .
وثمة اشارات ودلالات بليغة يوزعها الفيلم الذي تعاون في عملياته الفنية كمساعد مخرج السينمائي الاردني عمر حمارنة، بين ثنايا الاحداث وهي تحمل عناصر ومفردات من اللغة السينمائية كعملية الديالوج بين الضابط ووجهة نظر صديقه الطبيب عبر شاشة تعرض شرائط اعتراف الطبيب قبل ارتكابه جريمة قتل زوجته وانتحاره وفيه الكثير من علامات الحزن والاسى وايضا بعض مواقف الدعابة والطرافة.
ليس هناك اي ابعاد وعظية او طروحات مباشرة بقدر ما يترك صناع الفيلم للمخيلة التفكير والتناغم مع ما وراء هذه القصص والحكايات ذات التفاصيل الصغيرة التي يجري تصويرها للعديد من الشخوص الفردية والجماعية وهي في حالات قوتها أو ضعفها، بلا ادانة أو الحط لانماط سلوكها او الاعلاء منها، وانما يركنها لفراسة المتلقي في الانحياز لهذا الطرف او نقيضه.
درس المخرج جود سعيد الهندسة الا ان شغفه بالفن السابع قاده الى فرنسا لدراسة صناعة الافلام هناك، وعقب عودته الى سوريا قدم فيلمان قصيران من وحي ذاكرة طفولته، اضافة الى فيلم روائي طويل تحت مسمى (مرة اخرى) عاين فيه محطات من العلاقة التي تجمع بين شخصيات لبنانية وسورية على خلفية الظروف التي عاشها لبنان ابان فترة الحرب الاهلية في سبعينيات القرن الفائت .
(صديقي الأخير).. فيلم يعاين أسئلة الواقع
17
المقالة السابقة