لحظة فاصلة نعيشها اليوم في مصر وفي تونس تمثلت في القاهرة بتغيير محمد مرسي المنتخب بقيادة مؤقتة اختارها الجيش وتمثلت في تونس في اغتيال جبان ومجرم لرجل مناضل أصيل هو محمد البراهمي رحمة الله عليه ووجدنا أنفسنا في البلدين أمام مخاطر ثلاثة متشابهة يحاول المتظاهرون و المعتصمون أن يجهضوها وهذه المخاطر الثلاثة تترابط مثل حلقات سلسلة مخيفة تهدد النسيج الاجتماعي العربي وتربك البناء السياسي العربي و تمهد لخروج العرب من التاريخ وهي جميعا أي المغامرة والفوضى والفتنة تولد من رحم المصالح الدنيوية المتضاربة ومن رحم الانتماءات الأيديولوجية المتناقضة بين أبناء الوطن الواحد فيحدث عادة أن تتغلب الحسابات الحزبية الضيقة على مصلحة الوطن العليا وأن تطغى المطامع الشخصية المحدودة على الطموحات العامة للمجموعة الوطنية فيقع الكسر الذي لا يجبر في مفاصل المجتمع إلى حين عودة الوعي للنخبة وعودة البصيرة للمواطنين حين يكون جبر الكسر ممكنا ولكن التاريخ أثبت أن الزمن لا يصلح ما أفسده الناس بأيديهم وأن مصائر الشعوب كالزجاج لا يلتئم بعد الكسر.
هذا الذي جال بخاطري وأنا أسمع بعض أصوات سياسيين تنادي هذه الأيام باستنساخ التجربة المصرية في تونس ونقل حركة (تمرد) من ميدان التحرير بالقاهرة إلى شارع بورقيبة بتونس. وهي دعوات انتهازية لم تراع لا خصوصية البلدين ولا مستقبل الربيع العربي ولا طبيعة المرحلة الهشة التي تمر بها تونس اقتصاديا واجتماعيا وبالتالي سياسيا. ثم إن فشل الحراك العسكري المصري لم يعد خافيا عن الرأي العام العربي والدولي لأنه حراك مرتجل دبره أفراد يحصون على أصابع اليد ولعله أخذ بخاطر أطراف أجنبية عن مصر وهو إلى حد الساعة لم يثمر استقرارا منشودا ولم يحقق عودة ملايين المصريين إلى بيوتهم وأعمالهم ولم ينفذ وعود إنجاز شرعية جديدة بسبب تكاثر الشرعيات وتناقضها فلماذا نريد استنساخ تجربة مريرة لم تؤكد بأنها الأنجع والأصلح. مهما كانت أخطاء محمد مرسي فهي اجتهادات تخبطت كما تخبطت المعارضات المصرية وهي لا تستدعي انقلابا استعجاليا بل كان الأحرى فتح قنوات الحوار الوطني حول مصير ثورة 25 يناير لإعادة النظر في مسارها و كيفية تطبيق مستحقاتها و تحقيق غاياتها بعيدا عن هذا الانشطار (أي انقسام الشعب المصري إلى شطرين) الذي لا تحمد عقباه و لم تأت حركة قيادة الجيش لإجهاضه في المهد إنقاذا لمصر بل مع الأسف أسهمت الحركة في تعميق الانشطار وربما تسليحه وفتح الأبواب في وجه المجهول.إننا نعتقد في تونس أن هنات حكومة الترويكا وبطء المجلس التأسيسي في تحقيق وعوده أفضل من فتنة يوم واحد فالوفاق المطلوب لم يسع إليه الحاكم والمعارض على حد سواء و ظلت الحوارات هنا وهناك تسمع لها جعجعة إعلامية ودعائية ولا ترى لها طحنا كما يقول المثل العربي فكم مرة دعا الإتحاد العام التونسي للشغل لمؤتمر حوار ووفاق ونخرج من حوار لحوار دون حوار لأن تيارات غابت بسبب رفضها لتيارات أخرى أو لأن هذا الحزب يصر إصرارا ويلح إلحاحا على أن عقيدته هي الأفضل وفكره هو الأصلح فما جدوى الحوار بين نخب تتشبث برأيها مع اعتبار رأي الطرف المقابل مجرد تهريج أو “تحركه أياد خفية!”.
الفتنة تبدأ من إلغاء الرأي المختلف و الإفراط في الثقة في النفس التي تتحول إلى نرجسية مرضية فيتمترس كل حزب بما لديهم فرحون ويقع إيصاد اللعبة السياسية بصم الأذان عن سماع أي صوت مخالف. ولا نفهم كيف يرضى بعض الفرقاء بفتح باب المغامرة في لحظات تاريخية مفصلية هامة ودقيقة من واقع تونس ومصر اليوم لأن معضلاتنا الاقتصادية ومشاكلنا الاجتماعية ما لبثت تتفاقم على وقع تناقص الاستثمارات وتقلص السياحة وازدياد حجم الديون وارتفاع كلفة العيش ومراوحة حالة البطالة الشبابية مكانها إذا لم تتصاعد درجاتها وتتسع مجالاتها. فالبلاد في أشد الحاجة اليوم إلى بوصلة تهدينا لأقوم المسالك وإلى زعامة قوية وعادلة تقود هذا المركب التائه وإلى توافق صادق وأمين ينجو بنا من لجج اليم الهادر. وهو ما اقترحناه في الاتحاد الوطني الحر من حل توافقي معقول وممكن.
تتواتر هذه الأيام في تونس عبارتا (الشرعية) و(التمرد) وهما مصطلحان مرتبطان تلقفهما جزء من النخبة السياسية بقصد إعادة سيناريو مصر في بلادنا وهنا تجدر الإشارة إلى عدد من المؤشرات منها أن الحالة المصرية تردت في نفق دموي يومي تهدد مؤسسات الدولة بالانهيار وبدأ الضحايا يسقطون بدون وجه حق وبدون قضية تبرر تضحياتهم لأن القاعدة الدستورية التي أوصلت محمد مرسي للرئاسة ظلت هشة بسبب النسبة الضئيلة التي حصل عليها للفوز على منافسه أحمد شفيق وبسبب الأجواء المكهربة والمتشنجة التي أجريت فيها تلك الانتخابات والتي أعلن في مطلعها عن فوز أحمد شفيق ثم تغيرت النتيجة ولا أحد بالضبط يدرك لماذا وكيف؟ ثم إن الشرعية اهترأت وأصابها انجراف كانجراف التراب في الحقول لأسباب ما بدا كأنه استقطاب للسلطات الثلاثة بين أيدي الرئيس رغم هشاشة الوضع المصري العام و تكاثر النوايا من حوله للإطاحة به والتشكيك في الشرعية الانتخابية فدخلت مصر مرحلة ما قبل التمرد ممهدة للتمرد الذي لم يكن عفويا ولا شعبيا بل مخططا له ومبرمجا بدقة. وإذا كان هذا هو الوضع المصري فإن تونس نأت بمؤسساتها إلى حد اليوم عن الانهيار وحافظت نخبها على احترام اللعبة الديمقراطية رغم صعوبة الحالة الاقتصادية وإنذارات الوضع الاجتماعي ولا أحد يمكنه التنبؤ بالفراغ الدستوري ونتائجه المخيفة على المجتمع و نحن استمعنا إلى قيادات فاعلة في الثلاثي الحاكم يوم الإثنين الماضي تبعث برسائل مطمئنة على لسان رئيس الحكومة حول تحديد موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة مؤكدين أنها لن تتجاوز سنة 2013 ولعلنا بهذه الآليات الدستورية التونسية نخرج من التلويح بالتجربة المصرية المريرة التي لا يدعو إليها سوى المغامر الذي لا يشعر بمسؤولية وسوى الفوضوي الذي يريد الوصول للسلطة من خلال الفوضى. إن أمن الوطن والمواطن إذا ما عرفت الدولة كيف توفره هو الضامن الأول لسلامة المسار الديمقراطي يليه الحوار الصادق والعميق الذي سيؤسس للوفاق. وما عدا هذا المسار السليم فهو جر للبلاد والعباد نحو الفتنة وهي كما نعلم أشد من القتل.