بعد مرحلة طويلة من العنف السياسي واللفظي، انتقل الوضع المصري الى العنف الاهلي المادي والمباشر في الشوارع والميادين. وفي مثل هذا النوع من العنف خطورة استثنائية تهدد الدولة والمجتمع والاقتصاد، أي كل مقومات الوطن.
وكما اتضح من أحداث نهار الجمعة وليله، بات هذا العنف سلوكاً لكل الاطراف السياسية: الجيش الذي طالب بالمؤازرة للتصدي لجماعة «الإخوان المسلمين»، الذين نزلوا الى الشوارع من اجل دعم الجيش، وأنصار التيارات الاسلامية المناهضة للمرحلة الانتقالية في البلاد. وقد يكون هذا النوع من العنف اخطر من المواجهات المسلحة والعمليات العسكرية في شبه صحراء سيناء. ففي هذه الحال، ثمة مجموعات مسلحة، محدودة العدد، وتعرف الاجهزة الامنية أفرادها وتلاحقهم، لتظل المواجهات محصورة في طابع امني، وإن يكن بدأت تتوسع شيئاً فشيئاً، مع احتمال ان يتحول قطاع غزة ملاذاً آمناً للمسلحين.
أما تلك المواجهات في الشوارع والميادين، فتشترك فيها عملياً كل فئات المجتمع المصري، إضافة الى الجيش والشرطة. ما يعني انه عنف مرتبط مباشرة بالانشطار السياسي في البلاد، وسيبقى قائماً ما لم تتوصل الأطراف كلها الى نوع من تسوية، ينتقل الصراع بموجبها من الاعتصامات والشارع الى اروقة المؤسسات.
الواضح ان الظروف التي يمكن ان تؤدي الى مثل هذه التسوية انتفى وجودها. وبغض النظر عن الاسباب والدوافع التي ادت الى اطاحة حكم «الإخوان»، بعد سلسلة الخطوات الاستحواذية التي اقدم عليها الرئيس المعزول محمد مرسي، يشهد الوضع المصري قطبين يسعى كل منهما الى نفي الآخر.
هناك المؤسسة العسكرية، ومعها ملايين من المصريين المؤطرين في احزاب او المستقلين والذين تجمعهم مناهضة حكم «الإخوان» ورفض عودته. في المقابل، هناك جماعات الاسلام السياسي، ومعها ملايين أخرى من المصريين الذين يأملون باستعادة الحكم من المؤسسة العسكرية وعلى أنقاضها.
وفي ظل انسداد الأفق السياسي أمام هذين التيارين، وفي ظل هذا الانقسام العمودي في المجتمع المصري، يبقى العنف هو المتنفس الوحيد. وهذا ما اظهرته مشاهد الاعتصامات حيث تلاحظ السهولة والسرعة باللجوء الى السلاح في مواجهة الخصم السياسي. ومثل هذا الاتجاه مرشح للتصعيد في ظل الشعارات الحالية: تجريم «الإخوان» ومن معهم من حلفاء ومطاردتهم مع ما يشكلون من ثقل شعبي من جهة، ومن جهة اخرى فرض التراجع على المؤسسة العسكرية وعودة مرسي الى الحكم.
ليس هناك سوى العنف الذي نشهده حالياً لإدارة هذا المأزق. وكسر هذه الحلقة المفرغة يقتضي خطوتين متوازيتين يقدم عليهما كل من طرفي المعادلة.
فعلى جانب تيار الاسلام السياسي، خصوصاً «الإخوان»، تنبغي اعادة تقويم كل التجربة، منذ انطلاقتها حتى الآن، مروراً بملابسات الوصول الى الحكم، وذلك بما يشمل الهيكلية الداخلية ذات التنظيم الحديدي، وليس فقط السياسات. ومن دون ان تتحول الجماعة الى حزب ديموقراطي تنتخب قيادته على نحو شفاف، وتتخلى عن المرجعيات التنظيمية الاستبدادية الشائعة حين تشكلت في نهاية عشرينات القرن الماضي وتعززت بالتجربة طيلة تاريخها، لا يمكنها ان تتعايش مع نظام ديموقراطي. وهذا ما اكدته تجربة العام من الحكم، وهذا ما يخشى تكراره في حال عادت مجدداً الى السلطة.
وهذا يعني ان على الجماعة ان تعمد، وفي اسرع وقت ممكن، الى اجراء هذه الاصلاحات الجوهرية تنظيمياً وسياسياً وتنتخب قيادة جدية تتولى ادارة المرحلة المقبلة، قبل ان تغرق في شعارات الثأر والعمليات العسكرية. وهذه الإصلاحات وحدها هي التي تعطي الضمانات للملايين في الشوارع المصرية بأن التنظيم «الاخواني» بات يشكل جزءاً من النسيج السياسي للبلاد، يقبل بالتعددية وشروطها وتداول السلطة، وليس مجرد فصيل يتربص للاستيلاء على السلطة والاستفراد بها وإقامة حكم تسلطي، كما اظهرت تجربة مرسي.
في المقابل، على المؤسسة العسكرية ان تعطي الضمانات الكافية، عبر لجنة الدستور الجديدة، بعدم العودة الى الحكم العسكري الذي عانته البلاد على امتداد المرحلة الجمهورية. فالملايين الذين ناهضوا «الاخوان» ولبّوا طلب المؤازرة من الجيش، فعلوا ذلك لاستبعاد خطر الاستبداد «الاخواني» وليس من اجل التأسيس لعودة الاستبداد العسكري. كما ان على المؤسسة العسكرية ان تسهل، عبر هذه الضمانات، عملية الاصلاح لدى «الإخوان»، وأن تسرع عودتهم الى النسيج السياسي العام في البلاد وانخراطهم في العملية السياسية السلمية.
فهل يتمكن الجانبان من القيام بهذه المراجعات العميقة وبالتنازلات المؤلمة وصولاً الى الحل التسوية؟
عبدالله اسكندر/مصر: الحل الصعب؟
19
المقالة السابقة