كثيرون من الكتّاب والمحللين والسياسيين يطلقون على ما جرى في 23 يوليو 1952،انقلاباَ! هذه التسمية خاطئة شكلاً ومضموناً، ذلك أن شكل الحكم وبنيته اختلفا عمّا كان قبل يوم الثورة، وأن المضمون أيضاً اختلف، فإذا كان العهد السابق لثورة الضباط الأحرار تميز بالاقطاع، فإن ما بعد الثورة تميز بتوزيع الأراضي على الفلاحين بعد مصادرتها من الاقطاعيين، وإذا كان التعليم مقتصراً على النخب، أصبح في عهد عبد الناصر مجانياً, ولكل المصريين، كذلك هو الحال في الحقل الصحي وفي مختلف القضايا الحياتية الأخرى.
إن من أكبر انجازات ثورة 23 يوليو هو تأميم قناة السويس التي تأتي ذكرى تأميمها في هذه الأيام ، فقد كانت حكراً من حيث الحقوق على الدول الاستعمارية. التأميم جلب على مصر العدوان الثلاثي البريطاني-الفرنسي-الصهيوني, الذي أفشلت مصر أهدافه، وتحت وطأة المقاومة المصرية والضغوطات الدولية وقرارات الشرعية الدولية، اضطرت الدول الغازية، دول العدوان، إلى سحب قواتها من سيناء ومن على جانب ضفتي القناة ومن مدن بورسعيد وبور فؤاد وغيرهما.
عبد الناصر هو الذي صنع الوحدة بين مصر وسوريا في عام 1958، والتي كانت تجربة فريدة في الوطن العربي. تآمر المتآمرون من القوى الخارجية والداخلية على الوحدة، وللأسف كان الانفصال في عام 1961. المتآمرون من القوى الاستعمارية (وعلى الأخص دولة الكيان الصهيوني) لا يريدون وحدة الوطن العربي, من أجل أن يظل مجزّءاً, ضعيفاً, متفرقاً. المتآمرون يريدون تفتيت الأقطار العربية من دواخلها، ولذلك يُشعلون نيران الطائفية والاثنية والإقليمية البغيضة في داخل البلد العربي الواحد.
عبد الناصر ومنذ الثورة رسم أسس السياسة الوطنية التقدمية لمصر, على الأصعدة الثلاثة: العربية، والإقليمية، والدولية. عربياً من خلال مناصرة الشعوب العربية في تصفية بقايا الاستعمار والتحرر, ومناصرة الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية والتصدي لدولة الكيان الصهيوني ومؤيديها من الدول الغربية، وهو أحد قليلين ممن رسموا سياسة عدم الانحياز، وهو من المؤسسين لهذه الحركة في مؤتمر باندونج، وهو من أشد المناصرين للشعوب الإفريقية في نضالاتها وكفاحها للتحرر من مستعمريها، وكذلك الأمر لحركات التحرر في آسيا وأميركا اللاتينية. على الصعيد الدولي لم تتبع مصر قطباً دولياً من القوتين الأكبر في مرحلة الحرب الباردة, وإن تميزت علاقاتها مع الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية, بالايجابية, وهي التي كسرت احتكار السلاح, وساهمت في التنمية المصرية وخططها التصنيعية الطموحة. الاتحاد السوفييتي ساعد مصر في بناء السد العالي بعد رفض الولايات المتحدة والبنك الدولي والدول الغربية الأخرى تمويل بنائه وإقامته. السد وفقاً للخبراء العرب والأجانب هو من أنقذ مصر من كوارث حتمية مثل: الجفاف، والتصحر، وقلة مياه الشرب، وهو الذي أنقذ الزراعة المصرية وبخاصة: القطن وهو المنتج الأساسي لمصر.
عبد الناصر ورغم كل الخلافات العربية – العربية استطاع جمع الزعماء العرب في القمة العربية الأولى في القاهرة، القمم العربية أصبحت نهجاً سنوياً عربياً منذ ذلك الحين، وهو الذي ساهم بفعالية في دفع جامعة الدول العربية خطوات كبيرة إلى الأمام، لتحتل موقعاً ريادياً في العلاقات البينية العربية وفي العلاقات العربية مع الدول الأخرى وعلى الصعيد العالمي. عبد الناصر ساهم بفعالية في إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية.
قائد ثورة 23 يوليو أفشل أهداف حرب يونيو (حزيران) التي شنتّها الدولة الصهيونية في عام 1967، ضد ثلاث دول عربية. صحيح أنها احتلت أراضي كثيرة، لكن عبد الناصر قالها وبملء الفم وبمنتهى الوضوح: خسرنا معركة لكننا لم نخسر الحرب، وهو الذي كان وراء حرب الاستنزاف, وهو الذي هيأ القوات المصرية لعبور قناة السويس في حرب عام 1973، التي أرادها السادات حرباً تحريكية لا حرباً تحريرية، وهو صاحب مقولة:لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض مع إسرائيل.
هذا غيض من فيض من منجزات الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي مات فقيراً, وليس في حسابه البنكي سوى مئات قليلة من الجنيهات! بعد كل ذلك يسمون الثورة: انقلاباً…تحية للثورة في ذكراها.
د. فايز رشيد
كاتب فلسطيني