بعدما اشتدت الأزمة في مصر واقتربت لحظة الانفجار، هل حان أوان الانفراج؟ أطرح ذلك التساؤل مؤملاً أن يتحقق القول المأثور: اشتدِ أزمة تنفرجي. ولا أعرف إن كانت هناك فرصة لكي تشتد الأزمة بأكثر مما هي عليه الآن أم لا، لأنه بعد نزول الجماهير التي يفترض أن تكون قد فوضت وزير الدفاع في اتخاذ ما يلزم لمواجهة ما أسماه بالعنف والإرهاب، وأيا كان رأينا في القيمة القانونية لذلك التفويض، فإن الخطوة المتوقعة بعد ذلك تتمثل في تفعيل المواجهة والانقضاض على الجموع المؤيدة للدكتور محمد مرسي. وهو ما عبر عنه المستشار الصحفي لرئيس الجمهورية بأنه بداية الحرب ضد الإرهاب. وإذا صح ذلك فإن هذه الخطوة ستكون بداية لإغراق مصر في بحر من الدماء.
وفي ظل التعبئة الإعلامية الموازية، التي لا تكف عن التحريض والكراهية، الدعوة إلى الانتقام، فإن الأمر لن يقف عند ذلك الحد لأن خطاب الإقصاء والإلغاء لن يقف عند ذلك الحد. و أرجو ألا يكرر تجربة النازية الألمانية مع اليهود و من لف لفهم، حين أعلن هتلر ما أسماه بـ«الحل الأخير»، الذي بمقتضاه تم اقتياد الألوف منهم إلى معسكرات الاعتقال و غرف الغاز للتخلص من «أشرار المرحلة». و حينئذ يصبح الشعار المضمر أو المرفوع في مصر هو: المحرقة هي الحل.
في مواجهة الأفق المسدود، يطل ذلك السيناريو المخيف الذي أزعم أن أحدا لن ينجو من آثاره، لا المعارضون ولا المؤيدون ولا الوطن ذاته.
هذا الخوف أثار فزع شرائح مختلفة من المثقفين الوطنيين في مصر، الذين ظلوا طوال الأسبوع الماضي على الأقل، يبحثون عن مخرج للأزمة قبل أن يقع الانفجار ويندلع الحريق الكبير. وشاءت المقادير أنه في حين كانت وسائل الإعلام المصرية تجهز للحريق وتدفع باتجاه الانفجار، فإن أولئك المثقفين ظل شاغلهم طول الوقت هو كيف يمكن إنقاذ الوطن من الكارثة.
لا أستطيع أن أدعي الإحاطة بكل جهود أولئك المثقفين الوطنيين، لكني شاركت في الأسبوع الماضي في أربعة لقاءات لهم بالقاهرة شهدها عشرات منهم. ووقعت في نهاية الأسبوع على أربعة نداءات ومقترحات للحل، أحدها حمل توقيع 14 من أبرز مثقفي مصر المستقلين. والثاني صدر عن الدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء السابق، والثالث أصدره الدكتور محمد سليم العوا المرشح الرئاسي السابق، والرابع أصدرته الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح.
القاسم المشترك بين تلك النداءات يتمثل فيما يلي:
ـ أنها انشغلت بمستقبل الوطن وبالدفاع عن المسار الديمقراطي في مصر بأكثر من انشغالها بمشكلة الإخوان المسلمين، ومن ثم قدمت الوطن على الجماعة.
ـ أنها حاولت التوفيق بين التغيير الذي حدث في رأس السلطة وبين مقتضيات الدستور والقانون، بمعنى أنها سعت إلى إيجاد مخرج قانوني لأزمة السلطة الراهنة وشرعيتها القانونية.
ـ أنها انطلقت من التسليم بالأمر الواقع وسعت إلى إخراج الوضع المستجد وتحقيق الهدف الذي ينشده
من خلال خطوات تهدئ المشاعر الملتهبة وتحفظ السلم الأهلي وتؤسس لدولة القانون.
ـ المسألة الجوهرية في المبادرات تمثلت في قيام رئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسي بتفويض سلطاته إلى رئيس مؤقت للوزراء، يتم التوافق عليه بين مختلف القوى الوطنية، بحيث يتولى الأخير الإشراف على إجراء الانتخابات البرلمانية التي تأتي بحكومة منتخبة دائمة، تعبر عن موازين القوى في مصر. وهذه الحكومة تتولى إجراء الانتخابات الرئاسية. وهذا رأى عبرت عنه إحدى المبادرات، في حين ارتأى آخرون أن تجرى الانتخابات الرئاسية مع البرلمانية في الوقت نفسه. لكنها لم تختلف حول فكرة التفويض الذي يتعين منحه لرئيس الوزراء.
هذه الفكرة التي أطلقت قبل 48 ساعة اعتمد أصحابها على دستور 2012، الذي نص على أنه في حالة وجود موانع تعيق عمل رئيس الجمهورية، فإنه يتم تفويض رئيس الوزراء للقيام بمهامه. ومثل هذه الموانع تتوافر في الظرف الراهن بامتياز.
لا أعرف كيف استقبلت قيادة القوات المسلحة الفكرة، لكنني أعرف أنها تمثل مخرجا كريما من الأزمة، يحقق أهداف انتفاضة 30 يونيو ويحقن الدماء ويحترم الدستور والقانون. ويفتح الباب واسعا لإخماد الحريق الذي يسعى البعض لإشعاله في ربوع مصر. أعرف أيضا أن التفاهمات السياسية ومن ثم المصالحة ينبغي أن يتوفر لها هامش من المرونة من جانب كل الأطراف. وإذا كان ذلك حاصلا فيما بين الأعداء المتحاربين، فما بالك به حين تكون المصالحة بين الأشقاء. أما إذا تصلب طرف وقرر أن يملى كل ما يريد على الطرف الآخر، فإن المصالحة تفقد معناها، وتتحول إلى رغبة في الإذعان والإذلال تحتكم إلى القوة وليس إلى القانون فضلا عن العقل والمصلحة. وحين تتكلم القوة تخرس الألسنة وينقطع حبل الكلام. ويخيب أمل الذين راهنوا على الانفراج بعد اشتداد الأزمة.