تكثر في هذه الأيام الأصوات التي تجادل في مدى جدوى المفاوضات، والغريب أن من بينها الكثيرين ممن شاركوا بشكل أو بآخر بهندسة كل الإتفاقات السابقة مع إسرائيل، والتي أوصلتنا لما نحن فيه هذه الأيام، لم نسمع من أي منهم الإقرار بخطأ أو سوء تقدير، فقط نسمع ذرائع ودفع باللائمة على تصرف الآخرين، فهم كانوا جحافل مفاوضة وحين تغيبوا أو غُيبوا، إنحرف المركب التفاوضي عن وجهة التحرير وبلوغ الهدف.
آخرين، يطحنون أصوات مقاومة وكفاح، مع أن نتاج ذلك لم يرقى للمستوى المرجو منه، وكأن سلاحنا وقوتنا الفلسطينيتين مكبلة عن تحقيق قدرتها، التي لم تستطيع حتى الآن وبفعل عوامل كثيرة تحقيق أدنى مقومات التوازن وفي أي مجال، ومع ذلك كله، فإن البندقية الفلسطينية ما زالت ذات قيمة ولها في حاضرنا، كما كان لها في ماضينا المكانة المقدرة، وحتماً لن يكون أمامنا مستقبلاً غير صون سلاحنا لحفظ مستقبل وكرامة شعبنا وأرضنا.
اللا حرب أو اللا مقاومة، وفي نفس الوقت اللا تفاوض أو اللا سلام، جمود لنا ولما يخصنا كشعب مكبل تحت الإحتلال، أرض تُنهب ومقدرات تُغتصب، وصداح متواصل بالنضال، زفاف شهداء، وتغني بصبر أسرى كلهم أصبحوا عمداء، وعرب وعجم كل منشغل في حاله، لا يبشروننا بغير سوء حالهم، بالمقابل نرى عدونا يزهوا ويزداد صلفاً وعنجهية، يتوقعون زوال الجيوش العربية وتهديدها، ويستعدون لمواجهة فصائل وقوى تعتبر من إفرازات المرحلة الصيفية لا الربيعية، كون الربيع الحالي على ما يبدو يسعى لأخذ حالنا الفصائلي كقدوة، وقد يصلون لما وصلنا له من حال، تحريم للقتال والتفاوض على طرف وتحليله لطرف آخر، فالهدنه منصوص عليها ومسموحه، ويمكن أن تفضى لصفقة تبادل للأسرى، دفعنا ثمنها بما هو أكثر من الدم والدمار، صفقه ما زالت محكومة شروطها وتفاصيلها بالسرية والكتمان، لا يجرؤ أطرافها على إعلانها، مع أن نتائجها وما آلت إليه تبعاتها، تُظهر مدى قصورها مقارنة مع صفقات أُخرى سابقه لها بعقود.
مسؤولية الرئيس لا توصف، فقد إستطاع أن يغير من حال إلى حال، رغم شدة العواصف وقوتها، داخلياً وخارجياً، أحل مكان الدمار عمار، وسار بفلسطين لمصاف الأمم، كان واضحاً صادقاً وصريحاً، لم نرضى عليه أحياناً وغضبنا منه أحياناً أخرى، وفي المحصلة كنا نصل لنتائج تشير إلى صوابية خياراته، خاصة وأنه يقود سفينة فلسطين التي ينافسه على وجهتها الكثيرين، سواء كانوا عرب أو عجم أو غير ذلك من الكثيرين، محاولين أن تكون مسيرتها بإتجاه موانىء بعيدة عن سواحل الوطن، وكأن التحرير يمر عبر عواصم أو موانىء ما أنزل الله بها من سلطان، صبر علينا أكثر من صبرنا عليه، مصراً على صون حقنا في فعله ومسعاه، وهو الآن يقاوم في إتجاهين، الأول خارجي، يتعلق بفرض شروطه على الطرف الآخر المتمثل بإسرائيل وحليفتها الباغية أمريكا، والثاني داخلي، لإقناع الإخوة والرفاق بطبيعة الحال ومقومات المرحلة، ولم يقدر أحد ما يلوح به قادة إسرائيل من تهديد ووعيد له شخصياً، ولا لما يطلقون من تصريحات حول مدى تطرفه بإصراره على إحقاق الحقوق وكأن شيء لم يكن.
الحراك الأوروبي كان قوياً وحاسماً، لم يرقى لمستواه لا الإخوان ولا الأصدقاء ولا غيرهم، ممن لهم إتفاقات سلام مع إسرائيل أو لهم علاقات دبلوماسية معها، وما زلنا ننتظر تفاعل دبلوماسي دولي يرقى لمستوى موقف الإتحاد الأوروبي، مما يتطلب جهد دبلوماسي فلسطيني أولاً وأخيراً، وهذا ما نرجوه لتعزيز موقف يعتبر متقدم في رفض الفعل الإحتلالي الإستيطاني، مصدر قوة آخر عزز من خيارات الرئيس، الذي يسعى لكسر الجمود والإنطلاق لتحقيق نتائج على الأرض.
المفاوضات ليست أقل من خوض معركة، وكل ما جرى حتى الآن من جولات وصولات على هذا الصعيد لم يحقق لنا كل ما نريد، لكنه حقق أشياء كثيره لا مجال لحصرها، ولم يكن التفاوض أبداً مصدر خوف أو قلق، خاصة إذا كان المفاوض صاحب حق يحمل بأمانه مطالب وطموحات شعبه، وقيادتنا أبدا لم تكن غير ذلك، وهي تصر على مصادقة الشعب على أي إتفاق مستقبلي، مدركه أن الواجب يتطلب الفعل والعمل، لا الركون والسكوت، وحتماً لن نخسر شيء من التفاوض إذا ما قارنا ذلك بحالة الجمود أو خوض مغامرات غير محسوبة، فتحقيق إفراج وتحرير للأسرى الذين أمضوا عشرات السنوات، وأصبحوا عمداء، يستحق جولة مفاوضات، لن تسقط خياراتنا الأخرى ولن تلزمنا بشيء يتعارض مع مصالحنا غير أن نراهم بيننا أحراراً، كونهم يمثلون الوطن الواقعي فلسطين، وهم المعنى الحقيقي لصيانته والدفاع عنه، ووطن بلا أهله وأبطاله غابة موحشه بدون حياة، فالثقة ما زالت في محلها، لقيادة لم تساوم تحت أي ظرف وبقيت أمينه لمبادئها وحقوق شعبها.