بالغت الكثير من المصادر الفلسطينية والعربية في احتمالات نجاح وزير الخارجية الأميركية جون كيري في جولته السادسة الأخيرة للمنطقة، وتوهمت بأن العودة لطاولة المفاوضات بين الطرفين الرسمي الفلسطيني و”الإسرائيلي” أصبحت قاب قوسين او أدنى مع سيل التسريبات التي تحدثت عن سلة إغراءات أميركية ستقدم للجانب الفلسطيني تحت عنوان (جدولة إطلاق الأسرى + وخطة إنمائية ضخمة للضفة الغربية) إضافة لجدولة قضايا العملية السياسية ووضع حلول عريضة لها ترضي الطرف الفلسطيني، وترضي بالطبع الطرف “الإسرائيلي”. وبالتالي فإن الإعلان عن نجاح جولة جون كيري السادسة للمنطقة يتوقع أن يعلن عنه ولو بعد وقت من خلال معاودة استئناف المفاوضات المباشرة، التي بقيت وما زالت تتعثّر بسبب عدم قدرة “إسرائيل” على فرض شروطها.
الكلام عن سلة الإغراءات الأميركية للطرف الفلسطيني ليس أكثر من توزيع أوهام، وكلامٍ مكرر وممجوج، سبق وأن مارسته وأطلقت مثله الإدارات الأميركية السابقة ليتمخض الجبل في كل مرة فيلِدُ فأرًا، وفأرًا مشوهًا، فيما يضيع الناس في بحر من الأوهام والسراب القاتل بينما تواصل “إسرائيل” سياساتها المعروفة بالنسبة لقضم الأرض وتهويدها تدريجيًّا.
في هذا السياق، وفي مسار الحديث عن توزيع الأوهام والمشاريع والخطط الوهمية، تفيد المعلومات المتسربة من مصادر فلسطينية واسعة الاطّلاع أن جون كيري، يقترب من التوصل إلى اتفاق مبدئي بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية (قد تكون تسريبات جس نبض للشارع الفلسطيني، أو بالونات اختبار هوائية ..؟). وأن هذا الاتفاق العتيد يرتدي طابعًا تاريخيًّا على غرار اتفاق أوسلو (لاحظوا المبالغات ..!) فهو ( حسب المصادر إياها) يَحّلُ عقدة “حقّ العودة”” كما يقضي بالسماح لبعض العائلات بجمع الشمل في الضفّة ورفح وغزة (لاحظوا تقزيم حق العودة الذي هو بالأساس جوهر القضية الفلسطينية)، وأما البقية فلها أن تختار إما التعويض وإما الهجرة.
وتضيف المصادر بأنه وفقًا للاتفاق، ستكون للقدس الشرقية إدارة مشتركة (دولية ـ فلسطينية ـ إسرائيلية) لعشر سنوات. وستعترف السلطة الفلسطينية، في المقابل، بحق “الإسرائيليين” في اختيار هويتهم بالنسبة لمدينة القدس. وعلى أن يتم نقاش مسألة تبادل الأراضي، ولا سيما في الضفّة والقدس في لجان التفاوض. وأخيرًا فإن زمن تنفيذ اليتفاق سيمتد إلى عشر سنوات (عش رجبًا ترى عجبًا..!).
ونحن هنا لسنا بصدد دحض تلك الأفكار وإثبات تهافتها وانحدارها، وابتعادها عن الواقع، وتضييعها للحق الفلسطيني، وانحيازها للطرف الصهيوني، وتقزيمها للقضية الوطنية التحررية للشعب العربي الفلسطيني، فالأفكار إياها ليست بجديدة فقد سبق وأن تم عرضها والحديث عنه عشرات المرات في مسار العملية التفاوضية الممتدة منذ العام 1991، وتحديدًا منذ انطلاقة مؤتمر مدريد في سبتمبر 1991 وقد رفض الرئيس الراحل ياسر عرفات أفكارًا متقدمة نسبيًّا عنها في مفاوضات كامب ديفيد الثانية في يوليو 2000 في الولايات المتحدة، وعندما كان الرد الفلسطيني مدويًّا بإطلاق شرارات الانتفاضة الكبرى الثانية، فدفع الرئيس ياسر عرفات حياته ثمنًا لهذا الرفض.
إن تلك الأفكار الواردة أعلاه، مرفوضة جملة وتفصيلًا، ولن ترى النور على الأرض، فالشعب الفلسطيني سيرفضها على الفور ليس من منطق الرفض الأعمى (كما قد يحلو القول للبعض من المتسرعين) بل من منطق الرفض العاقل، ومن منطق الحفاظ على الحد الأدنى من حقوقه الوطنية التي أقرتها الأسرة الأممية والشرعية الدولية بالرغم من الإجحاف التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني عند قبوله قرارات الشرعية الدولية التي صدرت تباعًا منذ نكبة فلسطيبن عام 1948، وحتى قبل النكبة.
إن الخطير في كل ذلك، أن تلك الأوهام والمشاريع الهوائية التي يجري زرعها أنه يراد منها تخدير الناس من جهة، والإيحاء بوجود حركة سياسية ودور أميركي نشط، وإعطاء الدولة العبرية الصهيونية المزيد من الوقت والزمن والمطمطة لصالح تنفيذ مشاريعها الاستيطانية وفرض المتغيرات الديمغرافية كواقع على الأرض خصوصًا بالنسبة لمنطقة القدس.
والخطير أيضًا، أن العديد من الساسة العرب ومنهم الساسة الفلسطينيين لا يدركون الآن بأن “إسرائيل” تعيش لحظات انتعاشها الكبرى جراء ما يجري في العالم العربي من فوضى قاتلة على جميع الصعد، ومن فلتان وتدمير ذاتي إن كان في مصر أو سوريا وليبيا وغيرها من البلدان، وبالتالي فإن الدولة العبرية تجد نفسها وأمام قتامة هذه الحالة العربية وتفككها غير مستعدة لتقديم ما تسميه “تنازلات” للطرف الفلسطيني أو طرف عربي بل ترى بضرورة التمسك بسياساتها المعروفة وتسويف كل الجهود السياسية وتدميرها، خصوصًا في ظل موقف أميركي منحاز بطبيعته للسياسات “الإسرائيلية”.
في هذه السياق، إن مهام كبرى تنتظر عموم فصائل العمل الوطني الفلسطيني ومنها حركة فتح بالذات لإسقاط تلك الأفكار المقدمة أميركيًّا للطرف الفلسطيني ودحرها، والسعي لإعادة بناء الحالة الفلسطينية من جديد، والسير بحق وحقيقة على طريق إنهاء الانقسام الداخلي الفلسطيني الذي طال واستطال وأستنزف الجهود الفلسطينية وأضاعها في غير مكانها. فمواجهة الأفكار التي تُقزّم القضية الفلسطينية لا يكون بحالة فلسطينية هابطة ومنقسمة على ذاتها بل بحالة موحدة ومتماسكة ومؤتلفة في إطار برنامج موحد يجب أن يسعى الجميع في الساحة الفلسطينية من أجل التوصل إليه، فسيف الزمن يقطع ولا يرحم أحدا.
أخيرًا، إن الإعلان عن عقد لقاء فلسطيني رسمي مع الطرف “الإسرائيلي” في واشنطن الأسبوع القادم لا يعني البتة بأن الأمور باتت على سكة سليمة هي سكة الحل، فالأمور يتوقع لها أن تعيد إنتاج حالها وكما يقول المثل الشعبي الفلسطيني (تيتي مثل مارحتي جيتي).
علي بدوان كاتب فلسطيني ـ دمشق