ليس هناك أدنى شك بأن الحالة السورية لم تعد، بأي حال من الأحوال، مجرد صراع بين نظام يريد أن يبقى وشعب ثائر يريد أن يتحرر من ذلك النظام. لقد كان الوضع هكذا فقط في بدايات الثورة السورية لوقت لم يزد على السنة، حيث بدأت الثورة سلمية تحررية على غرار بقية ثورات الربيع العربي. وقد اعترف النظام نفسه بأن الثورة بقيت مسالمة حتى الشهر السادس من انطلاقها. ويؤكد هذا الأمر نائب الرئيس السوري فاروق الشرع في مقابلته الشهيرة مع صحيفة “الأخبار” اللبنانية، حيث أكد فيها بأن النظام كان “يتوسل رؤية شخص مسلح واحد” في الأشهر الأولى من الثورة كي يبرر استخدام القوة ضد المتظاهرين، لكنه لم يجد مسلحين، فقد كان الجميع ينشد التغيير سلمياً.
لكن من الواضح أن بقاء الثورة السورية سلمية، أو ذات اتجاه واحد، ألا وهو اتجاه التغيير، لم يكن في صالح لا النظام، ولا الكثير من القوى الإقليمية والدولية، فاستمرار الثورة السورية كحركة تحررية بدا وكأنه يضر بمصالح القاصي والداني في العالم. لهذا كان لا بد من حرفها عن مسارها لتشتيتها وإدخال عناصر مختلفة فيها كي تفقد هويتها السورية، وتتحول إلى بؤرة صراع متعدد الأطراف. وهذا الأمر لا شك أنه يفيد النظام، ويفيد الكثير من القوى خارج البلاد.
لقد بدأت لعبة تذويب الثورة السورية بفتح الأبواب للعناصر “الخارجية” بالظهور على الساحة. ولم تكن عمليات فتح الحدود السورية من كل الجهات إلا بداية لتفتيت الثورة، وجعلها شأناً إقليمياً ودولياً. الخطة أصبحت واضحة للعيان، خاصة وأن كثيرين يتهمون النظام بأن العفو العام الذي أصدره أكثر من مرة لم يكن الهدف منه، بأي حال من الأحوال، الإفراج عن المعتقلين، بل إطلاق سراح العناصر “الجهادية” التي كان يحتفظ بها النظام في سجونه كي تبدأ بمقاتلته حتى يقول للداخل والخارج إنه يواجه “إرهابيين ومتطرفين وتكفيريين” كما يصفهم. وقد صرح العديد من قادة الجماعات المقاتلة أنهم كانوا فعلاً في السجون السورية قبل أن يخرجوا، ويبدؤوا القتال ضد النظام. طبعاً لا ندري صحة مثل هذا الكلام، وفيما إذا الأمر مخططاً فعلاً، أم أن المقاتلين جاءوا لمساعدة الشعب السوري كما يقولون، أو تم إرسالهم من جهات خارجية لمحاربة النظام وإنهاك جيشه.
في كل الأحوال، وأياً كان الاحتمال الأكثر ترجيحاً، فإن الوضع في سوريا انتهى إلى صراع متعدد الأطراف بعد أن دخلت عليه عدة جهات من كل حدب وصوب. ويرى حتى العاملون في مراكز البحوث الغربية أن سوريا لم تعد مجرد شأن داخلي بين شعب ونظام، بل أصبحت بؤرة صراع عالمي بامتياز تشارك فيه عشرات الجهات المتصارعة التي تريد أن تصفي خلافاتها على الأرض السورية.
سألت قبل أيام زميلاً مخضرماً يعمل في أحد أهم مراكز البحوث الأمريكية المختصة بالشرق الأوسط: كيف يرى تطور الأحداث في سوريا، فأجاب: ” لقد استيقظت كل صراعات التاريخ في سوريا”. والوضع السوري، برأيه، لا مثيل له أبداً، ويختلف اختلافاً كلياً عن الوضع في بقية بلدان الربيع العربي، ففي مصر الوضع واضح، وكذلك في تونس وليبيا واليمن. أما في سوريا فقد دخل الحابل بالنابل، بغض النظر عمن هو المستفيد من هذا الاشتباك والتشابك الخطير. ويرى الباحث أن “هناك الآن عشرة صراعات على الأقل تحدث على أرض سوريا دفعة واحدة: صراع روسي أمريكي، صراع روسي إسلامي، صراع عثماني فارسي، صراع عربي فارسي، صراع شيعي سني، صراع عربي عربي، صراع تركي إيراني، صراع أوروبي روسي، صراع كردي عربي، صراع إسلامي إسلامي. والباقي أكثر”. ولا ننسى أيضاً أن جذوة الصراع بين النظام والشعب السوري لم تخمد أبداً، بدليل أنه لم تبق هناك سوى منطقة أو منطقتين لم تنخرطا في الحراك الهادف إلى التغيير رغم الخسائر الفادحة والمعاناة الشديدة التي لم يشهدها شعب غير الشعب السوري في العصر الحديث سوى الشعب الرواندي. لا عجب أن المنظمات الدولية لم تعد تجد إلا المثال الرواندي، وهو الأسوأ، كي تقارن به الحالة السورية، مع العلم أن الصراع في رواندا كان صراعاً داخلياً وقبلياً، على عكس الصراع السوري الذي تزيده التشابكات الدولية والإقليمية خطورة وتفاقماً. باختصار شديد، فإن العالم يتقاتل ويتصارع على أرض سوريا، والشعب السوري دفع ثمناً مرعباً على كل الأصعدة.
ويتهكم إعلامي سوري على الحال الذي وصلت إليه سوريا على ضوء التشابك الدولي على أرضها قائلاً: “قبل عقود قال الراحل الكبير محمد الماغوط: “من كثرة الطرق التي أصبحت تؤدي إلى قضية فلسطين، صارت القضية الفلسطينية بحاجة إلى إدارة مرور تنظم حركة السير إليها”. وأعتقد، والكلام للإعلامي السوري، أن مقولة الماغوط رحمه الله “تنسحب أيضا على الحالة السورية التي تقاطعت كل الطرق المؤدية إليها”.