أغلب الحوارات والخلافات العربية اليوم تدور حول رسالة القضاء المستقل في بناء المستقبل العربي على أسس الحريات المضمونة والحقوق المصونة والسلطات الموزونة. ففي مصر نشهد على بلوغ التجاذبات بين القضاء والسياسة أمدا بعيدا من الاختلاف في تصور المصير المصري الأفضل بل إن مشاكل الرئيس محمد مرسي الذي أطاح به الجيش بدأت بمبادرة مأسوف عليها تقضي بعزل النائب العام وفرض نائب مختار من جماعته فإذا بالجسد القضائي الأصيل العريق في مصر يهب هبة رجل واحد ليعيد المياه إلى مجاريها ويذكر الغافلين بأن للقضاء رجالا يحمونه. وفي ليبيا وصل أمر القضاء إلى نفق مسدود نتيجة عجز السلطات الجديدة على فرض هيبة الدولة بعد عقود طويلة من تغييب الدولة وتوظيف قضاتها لغير الله ولغير الوطن ولم ينج من القضاة المحترمين إلا من رحم ربك فهرب بجلده من اللجان الشعبية والهيئات الثورية والمحاكم الصورية القذافية ولكن الشباب الليبي ليس يائسا من الإصلاح ويريد أن يؤسس دولة الحق والقانون رغم أن بعض رموز العهد البائد يقبعون إلى اليوم في سجون بعض القبائل وليس في سجون الدولة ورغم أن الميليشيات تطوف بسلاحها حول مقرات الوزارات والمجلس الوطني وتفرض قوانين العزل وتقدم قائمات اسمية لمواطنين ليبيين بقصد محاكمتهم أو طردهم أو انتزاع ممتلكاتهم لمجرد وشايات أو إشاعات وهو ما يشكل خرقا لا للقانون فحسب وإنما للعدل الذي أوصانا به الله تعالى. وفي تونس بحمد الله تم انتخاب مجلس مستقل للقضاء
ولكن بعد أن نظمت جمعيات القضاة ونقاباتهم ندوات واعتصامات وإضرابات تعبر عن المرارة التي يشعر بها أغلب القضاة إزاء ما يعتبرونه إرادة من الطبقة السياسية لتوظيف القضاء وتركيع القضاة وتدجين السلطة المستقلة لصالح عقائد الأحزاب ومصالح التيارات الإيديولوجية. ولا بد من عودة للتاريخ العربي القديم والحديث لفهم طبيعة الصدام بين القضاء والسياسة. وأنا أعجب من بعض أيتام الحضارة من مثقفينا حين ينسبون مبدأ استقلال القضاء للفكر الأوروبي وللفيلسوف الفرنسي منتسكيو تحديدا في كتابه الصادر سنة 1748 في جنيف بعنوان (روح القوانين) والذي استلهم منه المشرعون الفرنسيون لكتابة دستور ما بعد الثورة لسنة 1791. وهؤلاء يتناسون أن مبدأ استقلال القضاء جوهري وعميق في الفكر القضائي الإسلامي أولا في نص القرآن وتعاليم الإسلام (وإذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل) ثم في التاريخ حين قرر أمير القيروان محمد بن الأغلب تولية الإمام سحنون بن سعيد التنوخي قضاء القيروان وهي العاصمة الأغلبية لكامل إفريقية ولم يكن سحنون راغبا في تولي هذه الخطة الخطيرة وما كان يرى نفسه أهلا لها ولكن الأمير محمد بن الأغلب بعد أن استشار الفقهاء وجدهم يجمعون على أهليته ولكن هذا الأمير قال بكل تجرد: “ما ظننت أنه يشاور في سحنون فرأيت أهل مصر يتمنون كونه بين أظهرهم وما يستحق أحد القضاء وسحنون حي”.ولما أعلم سحنون بالقرار والاختيار عليه تمنع وتملص وقال إنه لا يقوى على تولي القضاء فأغلظ عليه محمد بن الأغلب أشد الغلظة وحلف عليه بأشد الأيمان حتى أذعن سحنون للأمر لما علم أن لا مفر منه واشترط على الأمير شروطا أراد بها أن يعفي نفسه يقول سحنون: “لم أكن أرى قبول ذلك الأمر حتى كان من الأمير معنيان أحدهما إعطاء كل ذي حق حقه وأطلق يدي في كل ما رغبت حتى إني قلت: أبدأ بأهل بيتك وقرابتك وأعوانك فإن قبلهم ظلامات للناس وأموالا لهم منذ زمان طويل إذ لم يجترئ عليهم من كان قبلي. فقال لي الأمير: نعم لا تبدأ إلا بهم وأجر الحق على مفرق رأسي.
هذه حكمة نادرة عربية إسلامية تشير إلى أن القاضي العادل (سحنون) لم يقبل القضاء إلا بعد أن اشترط مقاضاة الأمير نفسه وآل بيته وكانت عليهم مظالم من الناس. كان ذلك في القرن الثالث الهجري قبل 9 قرون من الفيلسوف الفرنسي منتسكيو! أما التاريخ العربي الحديث فنجد فيه تفاصيل التصادم بين الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1954 وبين أكبر رجال القانون الدستوري أب الدساتير العربية عبد الرزاق السنهوري حيث انسحب رجل القضاء المستقل وترك الضباط الأحرار يتخبطون في ثورتهم من دون رادع من قانون وقال السنهوري كلمته المعروفة: أنتم ثورة لا دولة. وبالفعل انفصل القضاء عن ثورة 23 يوليو تاركا الساحة للارتجال والمغامرة بلا وازع من مؤسسات والجميع يدرك اليوم أن هزائم العرب وهزائم مصر بدأت من ذلك الانفصال. وهذا يذكرنا بالسير ونستن تشرشل حين فرضت الحرب العالمية الثانية على بريطانيا من النازية الهتلرية فألقى سؤاله من على منبر مجلس اللوردات: “هل المواطن البريطاني مطمئن للقضاء؟ فأجابوه بنعم فقال تشرشل: “إذن أعلن الحرب وسننتصر فيها ما دام الشعب البريطاني واثقا في عدالة بلاده”.
لم يعد بعد التحولات الكبرى التي حدثت في العالم وفي محيطنا العربي بإمكاننا أن نخلط بين السلطات الثلاثة فالتنفيذية في أيدي حكومات وطنية وكفاءات عالية وخبرات معترف بها والتشريعية بين أيد أمينة منتخبة يرضى عنها أغلب الناس والقضائية تظل سلطة مستقلة وغير منحازة وغير مسيسة لتقيم العدل بين المواطنين بالقسطاس بعيدا عن التوظيف الأخرق الذي أضاع على العرب فرصة الدخول للتاريخ من أوسع أبوابه حين كان صاحب الأمر يضع في جيبه مفتاح السجن يرمي فيه من يشاء من أعدائه ومخالفيه واسألوا يا قرائي الأفاضل سجن طرة في مصر وعذابات الشهيد سيد قطب وسجن غار الدماء في تونس الذي قيد فيه تونسيون من أرجلهم إلى الجدران لمدة سنوات وسجن أبوسليم في ليبيا الذي شهد جرائم القتل الجماعي لأفضل أبناء ليبيا وسجن تازمامرت في المغرب زمن الملك الحسن الثاني وقد ظلت هذه الرموز الرهيبة تشير إلى غياب القضاء العادل والضمير الحي. فحافظوا على العدل لأنه أساس العمران كما قال العلامة ابن خلدون.