بداية، ينبغي القول إنه إذا ضلت أميركا سبيلها، وفقدت رشدها السياسي تجاه بقية العالم الذي تزعمته بجدارة على مدى نحو قرن مضى، فإننا لا ننصح أحداً، بمن في ذلك ألد أعداء الاستعمار والإمبريالية، أن يفرك يديه فرحاً بمثل هذا المآل، غير المؤكد بعد، لمكانة الدولة العظمى الوحيدة، التي تقوم مقام الرأس فوق كتفي دول الكرة الأرضية، وتتربع على عرش القوة والتفوق بكل مدلولاتهما الملموسة.مرد التساؤل أعلاه، المسكون بالقلق والارتياب إزاء عافية العقل السياسي لإدارة الرئيس باراك أوباما، نابع من آخر ما طلع به علينا ناطقوها قبل أيام، بدعوة ترقى إلى مستوى الهذر؛ حين طالبت بإطلاق سراح الرئيس المصري السابق محمد مرسي، ورد الاعتبار له كرئيس منتخب، وكأن هذه الإدارة التي قلما تتمسك بقيمها الديمقراطية، قد تقمصت دور منظمة حقوق إنسان دولية، ترى بعين واحدة، ولا تفكر بسيناريوهات اليوم التالي.لسنا هنا في مقام تبرير احتجاز حرية أحد، فما بالك إذا كان رئيس جمهورية. ولسنا أيضاً مع امتهان كرامة إنسان مهما كانت منزلته الاجتماعية. غير أننا أمام حالة استثنائية، قد تفضي معها هذه الدعوة الأميركية الساذجة إلى تسعير حدة الاستقطاب في الشارع المصري، وربما التأسيس لحرب أهلية، وذلك إذا ما انتقل محمد مرسي إلى ميدان رابعة العدوية، وبدأ من هناك اعتصامه المفتوح إلى أن يعود إلى “الاتحادية”.ولا أحسب أن إدارة أوباما غافلة عن مثل هذا السيناريو المرجح بقوة، وهي تمتشق سيف معاييرها الانتقائية، غير ملتفتة إلى تداعيات خطوة بالغة الخطورة على الأوضاع الداخلية المشحونة بالتوتر لدولة في وزن مصر، الساعية بملايينها العديدة إلى استرداد ثورتها المجيدة، وتصحيح مسارها الديمقراطي، ومحاربة الإرهاب “المعشعش” في سيناء، وإعادة تموضعها كقوة قائدة في المنظومة العربية التي تفككت عراها لصالح قوى إقليمية جديدة.والحق أنها ليست هي المرة الأولى التي تدفع بنا إدارة الرئيس أوباما المتردد بطبعه، حتى لا نقول الهاوي في سياسته الخارجية، إلى الشك بسلامة نهج انسحابي مرتبك مديد، خذل العراقيين حين دفع بقواته الغازية إلى الفرار كيفما اتفق، وسلم بلاد الرافدين للإيرانيين على طبق، ثم أوقع بالفلسطينيين عندما تسلق وإياهم إلى أعلى الشجرة، غير أنه هبط وحده. وكذا مع السوريين في آخر تجليات خطه الأحمر السقيم.كان يمكن لكل متابع لتخبطات السياسة الأميركية في عهد أوباما، أن يتفهم بعض مسوغات هذا الاستخذاء المروع لمواقف واشنطن إزاء إيران التي تزداد تحدياً وجرأة، وحيال إسرائيل التي تميل إلى الغطرسة أكثر فأكثر، بل وحتى إزاء كوريا الشمالية المتهورة. أما أن يتم التعاطي مع مصر كجمهورية موز، ومطالبتها بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إيفاءً للتحالف الملتبس مع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، فذلك أمر يفوق كل قدرة على الفهم، بل يدعو إلى الارتياب فعلاً.ومع أنه يمكن مقاربة هذا الخط البياني الهابط لسياسة أميركا الشرق أوسطية على أنه من فعل يدي رئيس أميركي حذر وحالم، غير راغب في أن يترك وراءه سجلاً شخصياً باهراً يعادل تلك الرهانات التي انعقدت عليه كأول رئيس أسود في البيت الأبيض؛ إلا أن ذلك وحده لا يكفي للإحاطة بأسباب نزول الولايات المتحدة عن عرش فرادتها العالمية، بدون الانتباه إلى محدودية القوة الأميركية المتآكلة، وتهافت الدور القيادي، وانقلاب الأولويات، ناهيك عن افتقار هذه الدولة التي ما تزال عظمى، لقيادة لا تفقد دليلها، ولا تضل سبيلها، عندما تنتدب نفسها لأخذ الزمام والمبادرة الهجومية.لقد فعلت إدارة أوباما بالشرق الأوسط ما لم تفعله حتى إدارة سابقه جورج بوش الذي اشتاق البعض إلى حزمه. ففي عهد هذا الرئيس الذرائعي المتحفظ، باتت هذه المنطقة ساحة صراع سياسي ديني أيديولوجي أكثر من ذي قبل، وموضع فرص ضائعة، ودورا أميركيا ظل يبهت مع مرور الوقت، إلا أنه ظل قوياً وحاسماً كلما تعلق الأمر بالحفاظ على أمن إسرائيل وسلام كامب ديفيد.issa.alshuibi@alghad.jo
عيسى الشعيبي/هل أضاع باراك أوباما دليله؟
17
المقالة السابقة