اذا كان للزلزال السياسي المصري ارتدادات قوية في المحيط العربي الواسع، نظراً لمركزية القاهرة ودورها التاريخي المقرر في الجغرافيا السياسية للشرق الاوسط، فإن ارتداداته اللاحقة في فلسطين عموماً، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص، هي اشد هذه التوابع قوّة، لا سيما في الآونة التي بدا فيها حكم الجماعة الام في ارض الكنانة بمثابة الرافعة السياسية الكبرى لسلطة الامر الواقع في القطاع الغاص بالبؤس والسلاح والانفاق.
واذا كانت ايضاً صدمة فروع النتظيم الدولي للاخوان المسلمين بخسارة سدّة الحكم في مصر، صدمة قاسية، وفق ما بدت عليه ردود الافعال العصبية الغاضبة هنا وهناك، فإنها في قطاع غزة بدت اكثر من حالة صدمة، واشد عمقاً من مجرد خسارة يمكن احتوائها بسهولة والتكيّف مع مضاعفاتها بأريحية، حيث عادة ما تتولى دكتاتورية الجغرافيا فرض منطقها بقسوة، تماماً على نحو ما بدت عليه الامارة التي قد عقدت كل رهاناتها على نظام اخوانها الكبار في جبل المقطم.
والحق، ان وضع حركة حماس، التي اطلقت الرصاص في الهواء، ووزعت الحلوى على المارين في شوارع غزة، غداة نجاح محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية قبل نحو سنة، ليست في وضع حركة النهضة في تونس مثلاً، كي تداري طويلاً على خيبة الامل وتتستر كثيراً على انقصاف رجائها، ازاء سقوط حكم الجماعة الام في عقر دارها. فالمسألة في غزة افدح من ارتكاسة للفكرة ،واخطر من اهتزاز في الصورة.
لذلك فإن حالة الذهول التي اصابت القطاع الذي عاد الى سيرته الاولى محاصراً معزولاً، قابلة للفهم ومبررة تماماً. فقد كانت قاهرة المعز في عهد محمد مرسي بيتاً للحركة المتحكمة بأقدار غزة، وكان قادتها ضيوفاً دائمين على مكتب الارشاد وقصر الاتحادية والاعلام الرسمي، يصولون ويجولون من غير ابداء الحساسية اللازمة حيال القوى المدنية المعارضة، التي ظلت تتهم ‘حماس’ باقتحام سجن وادي النطرون خلال ثورة يناير.
غير ان ما لا يمكن فهمه او تقبله، ان تأخذ الحركة الاسلامية في القطاع الموصول بحبل السرّة مع الخارج، عبر معبر رفح، موقفاً منحازاً على رؤوس الاشهاد الى جانب الجماعة التي دالت دولتها ولم يبق لوجودها العلني سوى ساحة مسجد رابعة العدوية، وان تستفز مشاعر ملايين المصريين، ومعهم قوى الامن والجيش والاعلام والقضاء، بحملة تهييج عبر الفضاءيات التابعة لها، وكأن الحركة التي توقفت عن المقاومة قد شرعت في حرب ضد الثورة المصرية المتجددة، وانساقت بعيداً في الرهان الخاسر على اعادة مرسي الى’ الاتحادية’.
ففي مقابل الاجماع الفلسطيني على موقف النأي بالنفس عن الازمة في مصر وغيرها من الازمات العربية، دون اخفاء مشاعر الابتهاج بسقوط حكم الاخوان ، غامرت ‘حماس’ التي كان عليها ان تعد للعشرة، ثم تعيد العد مرة اخرى،ان تصمت قليلا قبل ان تنزلق الى شبهة معاداة الدولة، التي تشكل رئة التنفس الوحيدة للقطاع المحاصر، وان تتجنب استدرار مزيد من الغضب والكراهية، ليس ازاء الحركة المستخفة بمسؤولياتها عن حياة نحو 1.7 مليون نسمة، وانما ازاء الشعب الفلسطيني كله.
وهكذا، يبدو ان القوقعة السياسية التي تعيشها الحكومة المقالة في غزة، وعقلية السجين التي تتلبسها، هي التي املت عليها التماثل مع الرئيس المصري المعزول، والانتصار لحاله التي تشبه حالتها، حيث يرزخ احدهما في سجن صغير، والآخر في سجن واسع، يتبادلان آلام الفقد والخذلان عن بعد، ويتعلقان بقشة للنجاة من هذا المآل الذي عصف بهما عصفاً شديداً، لافتقار كلايهما الى القدرة على النظر ابعد من أنفه، ورؤية الواقع كما هو.
تبقى ضرورة التذكير بأن ما حدث انثاء الانقلاب الدموي في غزة قبل سبع سنوات، بما في ذلك إلقاء المواطنين من على اسطح الابراج السكنية، يحدث الآن في ‘المحروسة’ على نحو بانورامي واسع، وتحت اضواء عدسات الهواتف المحمولة، مع فارق ان في مصر جيشاً قوياُ، واعلاماً نافذاً، وقوى مدنية اعظم من ان يتم قمعها بسهولة، تحت زعم الدفاع عن خط المقاومة.