الجنرالات الانقلابيون الخارجون على القانون نفذوا واحدا من “أغبى” الانقلابات في التاريخ في مصر، ومن الواضح أنهم “لم يحسبوها بشكل صحيح” ولم يدرسوا معنى أن تنفذ انقلابا في بلد يعيش حالة من الثورة، ولم يضعوا خطة لما بعد الانقلاب ولم يحددوا الخيارات البديلة للحالة الانقلابية أو على الأقل الإبقاء على مخرج ما.
هؤلاء الجنرالات قاموا بـ”انقلاب أرعن” وزجوا البلاد في حالة من الفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار، وعمَّقوا حالة الانقسام في المجتمع المصري، سياسيا وشعبيا، وقاموا بجملة من التحركات الخاطئة، فالإطاحة برئيس شرعي منتخب شعبيا، خطيئة، لأنها إلغاء للديمقراطية وحكم صناديق الاقتراع والإرادة الشعبية، ودفع قطاعات واسعة من الشعب المصري إلى معاداة المؤسسة العسكرية التي كانت دائما تحظى باحترام الجميع.
لقد تفاقم هذا العداء بعد تنفيذ مجزرة الحرس الجمهوري التي ذهب ضحيتها حتى الآن 86 شهيدا و1000 جريح، وهي مجزرة وضعت رقاب الجنرالات الانقلابيين في المقصلة، ووضعتهم في مواجهة الشعب المصري الذي “يقدس” الجيش تاريخي مما يضعف المؤسسة العسكرية ماديا ومعنويا ويتركها بلا حاضنة اجتماعية لازمة وضرورية لكل الجهود، إضافة إلى أن قطاعات واسعة من الجيش المصري تبدي تململا من قتل المدنيين المسالمين بهذه الطريقة الهمجية، قد يؤدي إلى انشقاقها، علاوة على أن الجيش المصري بدأ يواجه هجمات من أبناء القبائل التي أعلنت 78 قبيلة منها مساندتها للرئيس الشرعي المنتخب الدكتور محمد مرسي، وهي هجمات أدت إلى مقتل عدد من الجنود، كما أن هناك مخاوف من انخراط أبناء القبائل مع الجماعات الجهادية الموجودة في سيناء مما يعقد المشهد أكثر، فعندما تجتمع “البداوة والجماعات الجهادية” في بوتقة واحدة، فإن هذا “الخليط المتفجر” يصبح أكثر عنفا وشراسة، وقد يؤدي إلى تنفيذ ضربات كبيرة سيكون له دوي على صعيد مصر والمنطقة كلها، وربما البدء بتوجيه هجمات إلى الكيان الإسرائيلي لإرباك المشهد كله.
“مجزرة الحرس الجمهوري” سيكون لها ما بعدها، فهذه القوات مفروزة أمنيا بشكل دقيق ومحكم، وهم لا يتصرفون إلا بتعليمات صارمة، وهي تعليمات يبدو أنها أطلقت أيديهم لإطلاق النار بضراوة على المعتصمين أثناء الصلاة بهدف تفريقهم نهائيا وإجبارهم على مغادرة المكان وفك اعتصامهم، وإرسال “رسائل ترويع” إلى المتظاهرين المؤيدين للرئيس الشرعي المنتخب، في ميدان “رابعة العدوية” و”ميدان النهضة” لإقناعهم “بالتي هي أسوأ” على إنهاء اعتصامهم.
لكن حسابات الجنرالات الخاطئة أدت إلى نتائج عكسية تماما، فقد أعلن الإخوان المسلمون ومؤيدو الدكتور مرسي التحدي وأعلنوا استعدادهم لمواجهة الجنرالات “سلميا حتى الآن” وبدون وجود أي إشارة إلى ترجع محتمل أو تقديم تنازلات، وباتوا يعتبرون مواجهتهم مع الجنرالات “معركة وجود” واستحضروا معركتهم مع جمال عبد الناصر إلى الذاكرة وكيف اعتقل 17000 شخص منهم في ليلة واحدة، ليعلن أحد قادة الإخوان إن ما جرى في حقبة عبدالناصر لن يتكرر أبدا، ويعلن محمد بديع مرشد الإخوان أن عودة مرسي إلى منصبه الرئاسي قضية غير قابلة للمساومة “مفيهاش فصال”.
هذا المشهد من التحدي بين الطرفين يضع المؤسسة العسكرية في ورطة حقيقة، مما يحول الوضع إلى “كرة نار” تكبر يوما بعد يوما، ففي الوقت الذي يصر فيه الإخوان على البقاء في الميادين حتى عودة الرئيس، يمضي الجنرالات الانقلابيون الذين يقودهم عبد الفتاح السيسي في تنفيذ “خارطة المستقبل” التي أعلنوا عنها، ويمضون في “خلق وقائع على الأرض” مثل تعيين حكومة، والإعلان عن “إعلان رئاسي” يضع كل السلطات التنفيذية والتشريعية في يد “الرئيس الانقلابي” عدلي منصور الذي كان يشغل رئيس المحكمة الدستورية، وهو ليس أكثر من واجهة بائسة للجنرالات الانقلابيين، يفتقد للشرعية القانونية والدستورية والأخلاقية، ويستند فقط إلى منطق القوة العسكرية للجنرالات الانقلابيين.
الجنرالات والرئيس الانقلابي الذي عينوه يواجهون حالة مستمرة من الغليان الشعبي لكسر معادلة “السيسي – مرسي” وهي معادلة تفيد أن عودة الرئيس المنتخب إلى سدة الرئاسة تعني مغادرة زعيم الانقلاب من المشهد، وربما محاكمته على الانقلاب والمجزرة، وهذا ما يجعل هؤلاء الانقلابيين إلى المضي قدما في مغامرتهم على طريقة “إذا قامرت وخسرت قامر أكثر ربما تربح”، وهم لا يعون أن المقامرة في مواجهة الشعوب دائما خاسرة، مهما طال الزمن، وجنرالات تركيا الانقلابيين أفضل شاهد على ذلك، فها هم اليوم يحاكمون على انقلاباتهم بعد مضي عقود من الزمن.
من العار أن تكون هناك محاولات مستميتة “لإطفاء الضوء” عن المجزرة، وقتلها والتشكيك بمن قام بها، وتوزيع دم الضحايا بين القبائل، ومع أن هناك جهة واحدة تتحمل مسؤولية سفك هذه الدماء الزكية، وهم الجنرالات الانقلابيون، العاجزون عن الدفاع عن أنفسهم بعد هذه المجزرة البشعة وأرسلوا ضباطا صغارا ليبرروا الجريمة بطريقة تفتقر لأدنى درجات الإقناع والمنطق والمهنية، وبات سؤال “لماذا يكون الجيش فوق المؤسسات” وله امتيازات خاصة وكأنه “دولة داخل الدولة؟” مطروحا بقوة.
البوصلة المصرية غرقت في دماء ضحايا “مجزرة الحرس الجمهوري” وباتت ابرتها تطفو فوق بحر من الدماء، وهو اتجاه خطر جدا يعني انزلاق مصر كلها إلى حالة من المواجهة الشاملة، ولن يخرج مصر من هذه الورطة إلا بعودة الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي، وخروج السيسي والجنرالات الانقلابيين من المشهد كليا.
ويبدو أن المؤيدين للرئيس الشرعي يدركون هذه الحقيقة ولهذا يصرون على مواقفهم، ويلوحون بالمزيد من الإجراءات التصعيدية التي تنقل الاعتصامات من حالة “الرفض السلبي” إلى الفعل الإيجابي، والتحرك إلى محاصرة كل وزارات الدولة والمؤسسات العسكرية، وإدخال البلاد في حالة من العصيان المدني، وهي تحركات تتصاعد تدريجيا يوما بعد يوم.
لقد استعرض العسكر قوتهم أمام دار الحرس الجمهوري وارتكبوا مجزرة بدم بارد، لكن هذا الاستعراض لا يعني سوى نهايتهم ومحاكمتهم وفتح كل الملفات التي لم يكن يستطيع أحد فتحها من قبل، وتحجيم الجيش والمؤسسة العسكرية وإعادتها إلى وظيفتها المهنية وإخراجها من المجال السياسي الذي سيطرت عليه خلال السنوات الستين الماضية.
الشعب المصري مصر على إعادة الرئيس الشرعي إلى قصره، وليس أمام الجنرالات إلا أحد خيارين، إما الرضوخ للإرادة الشعبية أو محاولة الجيش “تفريق الحشود الجماهيرية” بالقوة وهذا ما لا يقدر عليه أبدا، لأن حاجز الخوف كسر وانهار ولأن الدماء التي سفكت تغذي نار الغضب والإصرار عند الشعب الذي يرفض العسكر والجنرالات الانقلابيين المتمردين والخارجين على القانون.