لم تعد التقديرات الدولية تتردد أو تتحفظ في إيراد الرقم المفزع: مئة ألف قتيل في سورية، فهي تتحدّث عما صار موثقاً. أما التقديرات الواقعية فتضاعف هذه الحصيلة، استناداً إلى ما حصل ويحصل فعلياً على الأرض. ويجب ألا ننسى القتلى في جانب النظام، فهو لا يعلنها عملاً بقاعدة الحفاظ على معنويات عالية للجنود، ولا تقلّ خسائره عن ثلاثين ألفاً وفق معلومات لدى المعارضة. في معارك القــــصير أشارت مصادر «حزب الله» ووسائل إعــــلام قريبة منه إلى حصيلة تقلّ قليلاً عـــــن مئــــة قتيل، وهو ما سُمح بإعلانه. من الصعب إحصاء الجرحى والمصابين، وتبدو مئات الآلاف تقديراً غير مبالغ به.
أما المعتقلون والمفقودون فهم جميعاً لدى النظام وقد تحدّث أحد بيانات المعارضة عن ثلاثمئة ألف. أضف إلى ذلك لائحة طويلة من المدن الكبرى والصغرى والبلدات والقرى التي دمّرت كلياً أو جزئياً، وتسببت باقتلاع ما يقارب ثلث سكان سورية من بيوته بين مهجّر في الداخل ونازح إلى الخارج، وفق تقديرات الأمم المتحدة، وغــدا هؤلاء ضحايا أحياء تقوّض حاضرهم ومستقبلهم إلى أجلٍ غير معلوم.
لا بد من تظهير هذه المآسي في اللحظة الراهنة للتدقيق في ما يعلن عن ضرورة إحداث «توازن ميداني» قبل دخول أي تفاوض على حل سياسي. فبالنسبة إلى المعارضة والثوار لا وجود لأي توازن، ولا يُعرف حقاً ما هو المعيار الذي يمكن أن يرأب الصدع والاختلال، فالتفاوض على المشاركة في صيغة مع بعض أطراف النظام مع بقاء بشار الأسد وحلقته الضيقة وأعوانه – وإنْ مرحلياً – هو علاج سطحي لجانب من المرض الخبيث وتأجيل للموت الذي يستبطنه. كيف للجانب الذي يمثل النظام في المفاوضات، وسيواصل تمثيله، أن يشخّص المشكلة بمعزل عن إملاءاته، لكي يطرح المخارج أو يوافق على حلول لا بدّ أن تكون وسطاً.
ومن يفترض أن يتفاوضوا هم سوريون لكنهم باتوا يختلفون جذرياً. فمن يمثلون النظام لم يقولوا كلمة، طوال ثمانية وعشرين شهراً، خارج إطار الخطاب الذي اعتمده الأسد، أي أنهم تبنوا دائماً رواية «المؤامرة» ولم يعترفوا بأن شعبهم ثار على النظام ولا سُمح لهم برؤية تغوّل هذا النظام بل لُقّنوا الصمت على القتل وتبرير سفك الدماء فتحوّلوا إلى دمى تُشحن وتفلت كي ترقص فوق الجثث على نحو ما يفعل بعض أبواق حكومة النظام. وبالتالي فإنهم سيجلسون وجهاً لوجه مع السوريين «المتآمرين»، مع «الأعداء» و«الإرهابيين»، مع الذين تجرّأوا على المسّ بـ «خط المقاومة» وفضح أكاذيبه، ومع الذين رفضوا ويرفضون «الأسد إلى الأبد».
ومع ذلك، يُفترض أن يجهد الجانبان لإيجاد أرضية مشـــتركة للوقوف عليها، لكن نظرية أن النظام والحكم شـــيء والحكومة شيء آخر، وأن المساحة المتاحة لـ«مشاركة المـــعارضة» محدّدة في إطار الحكومة، هـــي وصفة لـ «تفاوض إلى الأبد».
في الأساس، لكلٍ رأيه وموقفه، لكن لا يزال محيّراً بل مذهلاً أن يكون هناك سوريون (ولبنانيون وفلسطينيون وأردنيون وآخرون) مع النظام.
ولذلك تفسيرات عدّة طبعاً، تبدأ بالانتماء الطائفي والأقلوي الذي يعمي عن الحقيقة وتمرّ كذلك بالمنافع والمصالح وبـ «ولع الذليل بمذلّه»، لكن غير السوريين يقدّمون حالاً موزعة بين التعصّب المذهبي (الشيعي) وبين الاعتبار «القومي» الذي يتوهّم أن «سورية النظام» هي آخر قلاع المواجهة مع الإمبريالية والصهيونية مع العلم أن المتوهّمين سبق لهم أن تعرّضوا لبعض جرائم هذا النظام قبل أن يتوصل إلى إخضاعهم.
ومع ذلك يبقى السؤال: كيف لإنسانٍ – إنسان أن يكون مع هذا النظام بعد كل ما فعله بسورية والسوريين (وبلبنانيين وفلسطينيين وأردنيين وعراقيين) طوال خمسين عاماً، وكيف اتفق أن أحداً لم يؤيد علناً بقاء القذافي ونظامه فيما هناك من يريد بقاء الأسد ونظامه، ما الفارق وقد تشاركا في تدمير بلديهما، وفي إهانة شعبيهما، وفي تمزيق مجتمعاتهما، وفي اللعب على التناقضات سعياً إلى التقسيم؟ الفارق الوحيد أن أحدهما انتهى والآخر ينتظر نهاية مماثلة مهما نجح في تأجيلها.
فالراحل لم تنفع تنازلاته للغربيين في توطيد مكوثه أو تحسين مصيره، أما الآخر المنتظر فلم تنقذه مهادناته وتنازلاته لإسرائيل وإن أفلحت في تأجيل رحيله إلى حين. أما الذين يحاجّون باكتشافهم أن سورية ليست ليبيا فلم يكتشفوا بعد أن النتيجة كانت أكثر فداحة في سورية مع تدخل عسكري خارجي لمصلحة النظام ومن دون أي تدخل مماثل إلى جانب الشعب.
مرة أخرى، لكلٍّ رأيه وموقفه، ولكن ألا يصدم موالي النظام أنهم كبشر لم يغيّر القتل، قتل مواطنيهم وإخوتهم، شيئاً في موقفهم. ألم يروا طوال الشهور الأولى أن الشعب لم يكن يطالب بتغيير النظام ومع ذلك قوبل بالعنف المفرط، ألم يروا بواكير أشرطة العهر الكلامي والتنكيلي، ألم يهزّ القتل الموثّق للأطفال بعضاً من ضمائرهم وإنسانيتهم، ألم يحرّك التدمير الإجرامي المنهجي حسّهم الوطني أو حتى خوفهم على مستقبل البلد من الإفساد المتعمّد لمعيشتهم واقتصادهم وعمرانهم… والأهم أنهم، إذا كانوا يعتقدون بوجود «مؤامرة» وبأن المستهدف هو «المقاومة والممانعة»، لم يروا كيف أن التهور الذي اندفع إليه النظام لم ينجح في تعزيز المقاومة والممانعة بل أضعف سورية سريعاً، أي أنه لبّى ما أرادته «المؤامرة» بل كافأها بتقويض أسس الاقتصاد والمضي في «عرقنة» البلد وتمهيد الظروف لتحقيق الحلم الإسرائيلي بتفتيت سورية إلى دويلات.
واقع الأمر أن مؤيدي النظام كانوا مثله ولا يزالون لا يعترفون بوجود شعب في سورية، حتى كأنهم لا يعتبرون أنفسهم أبناء شعب له شخصية وحضور بل مجرد رعايا للنظام. والأسوأ أن المؤيدين من غير السوريين وطّنوا أنفسهم أيضاً على أن سورية فيها نظام وليس فيها شعب، وينمّ خطاب إيران «حزب الله» عن ضيق بمحاولة الشعب السوري الإعلان عن وجوده في بلده لمجرد أنه يزعج مشروع الهيمنة الإيراني. وهما يتشاركان مع روسيا وإسرائيل في اعتبار أن ثمة مشكلة يمثلها هذا الشعب الذي يعمل على إسقاط النظام. أما الأغرب فإن هؤلاء كانوا أول من طرح التساؤلات عن «البديل»، مع افتراض مسبق ومتسرّع بأنه لن يكون صالحاً. أي أنهم لا ينكرون فقط وجود الشعب وحقه في تقرير مصيره، ولا يقرّون فقط بأن قتله مقبول ومبرّر، بل يقررون تلقائياً أن هذا النظام هو أفضل ما حدث لسورية طوال تاريخها، وأنه الصيغة الفذّة وغير المسبوقة التي وهبها خالق الكون لهذا البلد.
فأي نظام آخر في العالم ذهبت روسيا هبطت إلى قاع اللاأخلاقية والانتهازية في الدفاع عنه، وأي نظام سواه يمكن أن تدعمه إيران لأنه «يقاوم إسرائيل» وتدعمه إسرائيل على رغم أنه «يقاومها» متحالفاً مع إيران. لعل القاسم المشترك بين هؤلاء أنهم توحّدوا في اعتناق «التصهين» للإجهاز على سورية وشعبها.
يختزل النظام ومؤيدوه «البديل» بـ«الإخوان المسلمين»، بما في ذلك من تبسيط وتسطيح متعمّدين، ولمجرد تخويف المسيحيين والعلويين وسواهم من الأقليات أو حتى من القوى الدولية. في صفوف الشعب الثائر لم يكن التصوّر لـ«البديل» على هذا النحو، بصرف النظر عما يمكن أن يكون. وفي أي حال تدلّ المعطيات التونسية والمصرية والليبية على أن عملية إنتاج البديل لم تكشف بعد كل تعقيداتها. لكن وزير إعلام النظام الذي يبدي هذه الأيام دفقاً من التذاكي البائس علّق على التأزم الراهن في مصر بما يوحي بتأسفه على النظام السابق، ما يعني: لا تجعلوا من نظام الأسد نظاماً سابقاً وإلا ستحصدون «الإخوان» وبالتالي ستخسرون وزيراً عبقرياً مثله.
* كاتب وصحافي لبناني