تعيش أوروبا هذه الأيام صدمة يمكن وصفها بأنها من العيار الثقيل، ذلك أنها تسبب بها أولًا من يعتقد أنه حليف وصديق، وظلت أوروبا على الدوام توصف بأنها “بيبي” له، وثانيًا أنها انتهاك لكل الأعراف الدبلوماسية والسياسية وانتهاك للأخلاق والمبادئ والقيم التي صم بها هذا الصديق والحليف آذان العالم أجمع، حيث كثيرًا ما يركز في خطاباته ومؤتمراته الصحفية على ما يعتقد أن لديه مبادئ وقيمًا تنتظم في جانبها الأخلاقي مع المبادئ والقيم للأحرار في العالم.
وما كشفته صحيفتا “دير شبيجل” الألمانية و”الجارديان” البريطانية نقلًا عن وثائق حصلتا عليها من المستشار السابق في وكالة الأمن القومي الأميركي إدوارد سنودن الذي سرب وثائق سرية للغاية بعدما فر من بلاده، يعد غيضًا من فيض في تاريخ الولايات المتحدة، حيث أكدت الوثائق أن البعثات الدبلوماسية الفرنسية والإيطالية واليونانية في كل من واشنطن ونيويورك كانت من ضمن “الأهداف” الثمانية والثلاثين التي تجسست عليها الوكالة الاستخبارية الأميركية. كما راقبت الاتصالات الإلكترونية للسفارات والبعثات الدبلوماسية لكل من اليابان والمكسيك وكوريا الجنوبية والهند وتركيا، ولم تقف عملية التجسس عند تلك الدول، وإنما تعدت إلى مقرات الاتحاد الأوروبي في بروكسل وسفارته في واشنطن وبعثته الدبلوماسية في نيويورك، لتكون أيضًا ضمن “أهداف” وكالة الأمن القومي الأميركية التي ـ وبحسب هذه الوثائق ـ تجسست على اتصالات إلكترونية عالمية في إطار برنامج “بريسم”. ولم تعتمد الوكالة فقط على مكبرات صوت “ميكروفونات” وضعت في مباني الاتحاد الأوروبي، بل اخترقت أيضًا شبكته المعلوماتية، ما أتاح لها قراءة الرسائل الإلكترونية والوثائق الداخلية. وقد أعطيت كل مهمة تجسس على سفارة كل دولة من الدول السابقة اسمًا خاصًّا بها، فمهمة التجسس على السفارة الفرنسية في واشنطن أطلق عليها اسم “واباش”، في حين أن مهمة التجسس على البعثة الفرنسية في نيويورك أطلق عليها اسم “بلاكفوت”. أما مهمة التجسس على السفارة الإيطالية في واشنطن فسميت “برونو”.
إن هذه الفضيحة الأميركية الجديدة تؤكد زيف ما تتشدق به الولايات المتحدة من مبادئ وقيم وديمقراطية واحترام وحرية، وأنها في إطار مصالحها القائمة على الأنانية والشرور المطلقة، لا تؤمن بالأعراف الدبلوماسية ولا بسيادة الدول، ولا قيمة لها لمعاني الصديق أو الحليف إلا بالقدر الذي يؤمِّن لها مصالحها فقط، ولذلك لا غرو أن تمتلك وحدها مركز الصدارة في ممارسة الانتهاكات والتجسس وصناعة الإرهاب ما دامت المصالح والماديات القائمة على الأنانية هي المحرك الرئيس للسياسة الأميركية، وهي كذلك الغذاء والهواء والماء للرأسمالية المتوحشة، ولهذا لا عجب أن يكون عدد من الشعوب ذات الثروات والمقدرات وقودًا لازمًا لدوران آلة الرأسمالية المتوحشة، وفي مقدمة هذه الشعوب شعوب المنطقة حيث قُدِّمت أجسادها ودماؤها قرابين للرأسمالية الأميركية المتوحشة، وعُدَّت ثرواتها ومقدراتها من أرقى أنواع الوقود الذي يضمن استمرار دوران آلة الرأسمالية دون توقف، وفي سبيل توفير مظلة أمنية كبيرة لحماية الرأسمالية كان للمثلث الأميركي بأضلاعه الثلاثة (الإرهاب، القوة العسكرية الغاشمة، التجسس) الدور الضامن لذلك، حيث شكلت تلك الأضلاع أسلحة فتاكة لعبت في أغلب فتراتها على التناقضات والاختلافات الداخلية والخارجية، لتأجيج الصراعات وضمان التفرد والهيمنة. وقد قالها جون كيري وزير الخارجية الأميركي في معرض تبريره هذه الفضيحة الأخلاقية بكل صفاقة “إن كل دولة في العالم معنية بالشؤون الدولية وبالأمن القومي تقوم بالكثير من الأنشطة لحماية الأمن القومي وكل المعلومات التي يمكن أن تسهم في ذلك. كل ما أعرفه أن هذا ليس غريبًا في الكثير من لدول”.
تاريخ الولايات المتحدة حافل بأنشطة التجسس ضد دول ومنظمات، مثلما هو حافل بكيفية صناعة الإرهاب وتصديره للاستعاضة به عن استخدام القوة العسكرية حينًا، أو ليكون مقدمةً لاستخدام القوة العسكرية حينًا آخر، ولعل ضبط روسيا الاتحادية مؤخرًا عددًا من العملاء للاستخبارات الأميركية، وقبل ذلك حادثة زرع أجهزة التنصت في طائرة البوينج (767) التي كانت مخصصة لاستخدام الرئيس الصيني جيانج زيمين والتي وصل عدد أجهزة التنصت المزروعة بها عشرين جهازًا تعمل بواسطة الأقمار الاصطناعية، ما هما سوى أبرز مثالين حيين. لكن إذا كانت الولايات المتحدة هذا هو تعاملها مع الدول المتقدمة التي تربطها بها علاقات مصالح أو صداقة أو تحالف، فكيف هو تعاملها مع الدول العربية؟ أليست مستباحةً وذات سيادة منتهكة، ومرتعًا لوكالة الاستخبارات الأميركية، وتلميذاتها؟ أوليس الذي تشهده الدول العربية من فتن وصراعات داخلية واحتراب طائفي لعبت على تناقضاته واختلافاته وكالات التجسس هذه؟
إن هذه الفضحية الأميركية الجديدة رصيد آخر يضاف إلى ما سبقه، وتؤكد أن صاحبتها مُصَنِّع كل الشرور والموبقات ومُصدِّرها في العصر الحديث، لكن على المقلب الآخر على أوروبا المصابة بداء التجسس الأميركي أن تثبت أنها ذات استقلالية وإرادة ترفض انتهاك سيادتها، وأن تتطهر من رجس هذا الداء وتتحصن منه، وإلا موقف غير ذلك إنما يؤكد أنها لا تزال وستظل “بيبي” أميركا.
خميس بن حبيب التوبي
khamisaltobi@yahoo.com