كل من زاوية رؤيتها الخاصة، ومعتقداتها ومصالحها المتباينة، تترقب العواصم والأحزاب والقوى والكتّاب والناس في جوار مصر الواسع، تطورات الحالة السائدة في القاهرة، حيث يحبس الجميع أنفاسهم، ويختلفون في قراءاتهم للمشهد، ويعبرون عن توقعاتهم، أو قل عن تمنياتهم للمآل الأخير للموقف الذي سيفضي بالضرورة الموضوعية إلى إعادة الحسابات لديهم والاصطفافات بينهم؛ ليس إزاء الحدث المصري فقط، وإنما حيال معظم القضايا والأزمات القائمة في المنطقة العربية.وأحسب أن الأردن مثلاً، ودول الخليج أيضاً، تتابع التطورات المصرية بترقب لا يخلو من القلق، وتنصرف أذهان المسؤولين والمواطنين معاً إلى المجريات والتفاعلات والاستقطابات الراهنة في أرض الكنانة، بين من يمنّي نفسه بغلبة قوى الثورة المتجددة، وبين من يتعلق بخيط أمل رقيق في عودة الأمور إلى نصابها في أقرب وقت ممكن، وذلك من منطلق أن الشأن المصري ليس أمراً خاصاً بالمصريين وحدهم، وإنما تأثيره على المحيط العربي والإقليمي بالغ العمق، بعيد المدى، ويخاطب الجميع بدون استثناء.بين كل المترقبين والمتربصين والمعولين بشدة على تطورات الوضع الذي لم يستقر بعد في مصر، كان لافتاً موقف كل من دمشق وغزة على وجه التحديد، وذلك لشدة المضاعفات التي قد تترتب على التحولات المصرية؛ أولاً إزاء الأزمة السورية التي انحازت فيها الرئاسة الإخوانية إلى جانب ثورة الكرامة مؤخراً، وثانياً حيال الحالة الراهنة في القطاع الذي وجدت حماس في جواره متنفساً واسعاً، وموقفاً مواتياً، حتى لا نقول بيت ضيافة دائما ومستقرا وآمنا، بعد وصول الإخوان المسلمين إلى سدّة الحكم.فقد أظهرت دمشق موقفاً انتهازياً مفضوحاً إزاء الحدث المصري، ورأت فيه ما يشفي غليلها، ويرد لها أنفاسها، وهي تتابع المظاهرات الاحتجاجية في القاهرة والمحافظات باستعراض إعلامي هابط، مراهنة على أن هذه التطورات التي استقطبت كل الاهتمامات، واستولت على كامل مساحة شاشات التلفزيون، سوف تحقق لها الفرصة السانحة كي تمضي بعيداً عن عيون الإعلام في محاولاتها اليائسة لإنهاء ثورة شبّت عن الطوق، وغدت قوة لا تقبل الاحتواء أبدا.أما حماس في قطاع غزة، فقد بدت صامتة ومرتبكة، تعصف بها الظنون والمخاوف والتحسبات تجاه ما قد يحدث على بوابتها الحدودية الوحيدة، من تبدلات عميقة، قد تودي برهاناتها وتحالفاتها وخططها الرامية إلى إدامة استئثارها بالقطاع، وتحويله إلى إمارة إسلامية، بالاستناد إلى قاعدة إخوانية مؤازرة للحركة على رؤوس الأشهاد، ومتسامحة حتى مع الأنفاق التي باتت تشكل خطراً على الأمن القومي المصري من جهة، وصارت قاعدة لتمويل الاقتصاد الأسود من جهة مقابلة، ناهيك عن تعزيز الانقسام.وهكذا تجلت على الفور مظاهر الحسابات النفعية المؤقتة، وبواطن التحسبات السياسية القائمة على افتراضات غير متقاطعة، لدى أكثر طرفين عربيين منهمكين بشدة في مراقبة التطورات المصرية؛ إذ يمنّي أحدهما نفسه –في دمشق- بانحسار مد الربيع العربي في قاعدة ارتكازه الكبرى، وإغلاق هذه الصفحة الموجعة كلياً؛ فيما يصلي ثانيهما –في غزة- كي تمر هذه العاصفة العاتية بالحد الأدنى من الخسائر، بدون أن يتمكن هذه المرة من المجازفة مجدداً، على غرار ما حدث في ثورة 25 يناير، بالوقوف علناً الى جانب رديفه الإخواني في القاهرة.وبين هذا الموقف وذاك، يمكن للمرء أن يأخذ موقفاً مستقلاً عن هذين الطرفين المهجوسين بحالتيهما الذاتية، ومصالحهما الجزئية، وقراءتيهما الرغائبية للتطورات المصرية، وذلك من خلال تقديم رؤية تقييمية موضوعية، تستند إلى تشخيص مفاده أن ما يجري في مصر هو مجرد تصحيح لمسار الثورة، إن لم نقل استرداداً لها من بين أيدي الذين استولوا عليها في غفلة من أصحابها، ووظفوها في خدمة أجندة دينية مريبة. وهو ما أدى في نهاية مطاف عامين صاخبين إلى انفجار موجة ثورية جديدة، من المقدر لها أن تعيد وضع الأمور في سياقها الحقيقي؛ تجدد الربيع العربي، وتمنحه زخماً مضاعفاً.