نبلغ اليوم، في المنطقة العريضة الممتدة من مصر غرباً إلى العراق شرقاً، ذروة التصدع والتفكك، فيما يتبين، بوضوح باهر، أن الطور الذي نعيشه أقرب إلى الجيولوجي منه إلى السياسي، فقد كشفت التحولات الثورية الكبرى، من حرب العراق في 2003 إلى ثورات «الربيع العربي»، عن مجتمعات مفتتة ومتكارهة ومريضة. وكم يتبدى الآن أن الفواتير التي تجمعت على مدى قرن وكنا نتهرب من دفعها، بذرائع المهمات القومية والتحريرية المزعومة ظانين أننا نجونا منها، استحقت كلها دفعة واحدة وصرنا مطالَبين فجأة بسدادها.
وهذا الذي يجري يمكن إرجاعه إلى أسباب عدة، إلا أن السبب الأبرز والأهم هو أننا لم نبنِ دولاً وأوطاناً ومجتمعات على قاعدة المواطنية، فاليوم خمر وغداً أمر، أما الخمر فكان تثبيت الاستبداد بحجة تلك المهمات القومية والتحريرية، وأما الأمر فلا يأتي.
لكن وصف المستقبل لا يبدو أفضل حالاً من وصف الحاضر. صحيحٌ أن الثورات، وفي وقت يطول أو يقصر، مرشحة لإعادة النظر في أشكال الحاكمية المعتمدة، وربما في صيغ الخرائط التي كفت عن الاشتغال وأظهرت ضعف صلاحها وانتهاء صلاحيتها. بيد أن هذا لا ينبغي أن يحمل على الاستسهال تفاؤلاً أو حماساً: ذاك أن الخروج من المستنقع المجتمعي ليس طريقاً قويماً وقصيراً، كما أن مجتمعات كهذه قد تستنقع ثوراتِها بقوة تعادل قوة ثوراتها على تحويلها.
لكنْ ما هو الأساس الداخلي الذي يمكن البناء عليه لتجاوز الكارثة الموصوفة؟
لقد ارتسمت على مدى عقود معادلةٌ تقول إن تماسك مصر قادر على إحداث التماسك في المشرق العربي الآسيوي المجاور لمصر. لكن ما كان بادياً على السطح من تماسك مصري يتكشف وهماً محضاً، وهذا قبل أن يتقدم منا يوم 30 يونيو الذي يضفي عليه طرفا النزاع في القاهرة ملامح اليوم القيامي العظيم. وبعدما عاشت السياسة العربية طويلاً على توازن مصري – عراقي، بات التذكير بتلك المعادلة يقارب التذكير بالإمبراطوريات القديمة في ما بين النهرين أو في وادي الفراعنة. أما السلام السوري الذي هيمن على المشرق الصغير لربع قرن، فتكشف عن خديعة كانت تراكم أسباب ضعفها في قوتها الظاهرية المفتعلة.
إن المراكز المشرقية الثلاثة، المصري والعراقي والسوري، تذوي وتتصدع، أما العلاقات في دواخلها فتشي بأن الانقسامات القديمة (يساري/ يميني، تقدمي/ رجعي، تحرري/ غير تحرري… إلخ) كانت أقرب إلى ألعاب الوقت الضائع الذي انتهى مع صعود التناقض السني/ الشيعي بوصفه التناقض المارد الذي وحده يُلهب المخيلات.
وتلوح في تهاوي منطقتنا هذا نتائج عجزنا المديد عن التعايش مع العالم الحديث وإملاءاته، كما شرعت ترتسم مع انحطاط الإمبراطوريات في بواكير القرن العشرين، وعلى ذلك ألف دليل يقول كم أننا نفتقر إلى الأساس الذاتي الذي يصلح للبناء عليه، وكم أن الاحتراب الأهلي هو المهنة التي نُجيدها والأفق الوحيد الذي يرتسم في مستقبلنا.
وفي هذه الحال، من أي جهة تُطلب النجدة للتغلب على ما نحن فيه وإعادة ترتيب أوضاعنا بما يجعلها قابلة للحياة ويجعلنا نحن قابلين للحياة؟ أم أننا، وفاء منا لقضايانا القومية والتحررية، سنمضي في الصداح: لا للتدخل الأجنبي، كي يتفرغ واحدنا لقتل الآخر؟