بالأمس صدر قرار بإخلاء سبيل مبارك بعد تبرئته من تهمة الكسب غير المشروع. وكان قد صدر لصالحه حكم مماثل في وقت سابق بعد تبرئته من تهمة قتل المتظاهرين. وقبل أيام قليلة تمت تبرئة أحد الضباط المتهمين بقتل المواطن سيد بلال بالإسكندرية، وتم ذلك بعد تبرئة وإخلاء سبيل الضباط المتهمين بإعدام وثائق جهاز أمن الدولة، وعلى رأسهم رئيس الجهاز ومساعد الوزير الأسبق. كما صدر قرار بإخلاء سبيل الأخوين علاء وجمال مبارك في قضية إعادة محاكمة الأب ومعاونيه، وتواصل إخلاء سبيل وزراء مبارك واحدا بعد الآخر بعد تبرئتهم. ومن هؤلاء من عاد إلى بيته بعد تبييض صفحته، ومنهم من ينتظر. وإزاء تواتر الأحكام المماثلة فبوسعنا أن نقول إن فكرة مهرجان «البراءة للجميع» لم تعد مزحة، وإنما صارت تشخيصا صحيحا يصف موقف القضاء من رأس النظام السابق وأعوانه وفلوله.
أدري أن القضايا بحد ذاتها مهزلة أقرب إلى الفضيحة، لأنه لا يخطر على بال أحد أن يستبد نظام بحكم الشعب طوال ثلاثين عاما، معتمدا على التزوير والتدليس والقهر والإذلال، ويستغل هو وأعوانه ثروة البلد ويدمرون مؤسساتها وقدراتها الاقتصادية والسياسية، ثم يحاسبون بعد ذلك على تهم تافهة، تشكل نقطة في بحر الجرائم التي ارتكبوها بحق المجتمع طوال سنوات حكمهم. هذه نقطة لا يستطيع المرء أن يتجاهلها حتى لا يوجه كل اللوم إلى القضاة الذين أحيلت إليهم القضايا بعدما طمست أدلتها.
أدرى أيضا أن المشكلة سياسية وليست قانونية، بمعنى أن السياسيين لم يمتلكوا شجاعة محاسبة رأس النظام السابق وأعوانه بما يستحقون على جرائمهم الحقيقية بحق البلد، فأحالوا الأمر إلى القضاء العادي لكي يحاسبهم بقوانينهم في حين أن وضعهم الخاص كان يستلزم تقديمهم إلى محاكم خاصة.
ورغم أن الأمر أوكل إلى القضاء الذي حمل بما لا ينبغي له أن يتحمله، إلا أنه لا يزال بوسعه أن يضع حدا لعملية إخلاء سبيل الأشخاص الذين يشكل خروجهم في الوقت الراهن خطرا على الأمن العام في البلد. وذلك رأي المستشار زكريا عبدالعزيز رئيس محكمة استئناف القاهرة الذي يستند فيه على التعديل الذي أدخل في عهد مبارك على المادة 134 من قانون الإجراءات الجنائية، ونص على حق القاضي في أن يصدر أمرا بحبس المتهم احتياطيا في عدة حالات منها «توقى الإخلال الجسيم بالأمن والنظام العام الذي قد يترتب على جسامة الجريمة». وهو يرى أن إخلاء سبيل الرئيس الساق وإطلاق سراحه من الأمور التي تنطبق عليها تلك الفقرة، لأن من شأن إطلاق سراحه الإخلال الجسيم بالأمن والنظام العام.
ما يثير الانتباه ليس فقط اتجاه القضاء إلى تبرئة أنصار النظام السابق ورجاله، حتى الذين اتهموا منهم بالتعذيب وقتل المتظاهرين. ولكن إطلاق هؤلاء الرموز تزامن مع الظهور الواضح والمتدرج لرجال النظام السابق في المجال العام. إذ ليس سرا أن رجال إعلام مبارك لهم حضورهم المشهود في القنوات والصحف الخاصة، وقد تحولوا جميعا إلى مناضلين غيورين على الثورة، حتى صاروا يشاركون بصفة يومية في رفع لواء المعارضة وتعبئة الجماهير ضد النظام القائم. وهؤلاء الإعلاميون لا يكتفون بما يقدمونه وإنما يعمدون إلى استضافة أقرانهم من رجال النظام السابق وأعوانه كمتحدثين في البرامج التلفزيونية أو ككتاب ومعلقين. ومنهم من نظم مهرجانا قبل أيام للحديث عن مستقبل مصر، تم فيه حشد عناصر المعارضة، وذلك في إطار التسخين والتعبئة قبل حلول 30 يناير.
قبل أيام ظهر واحد من رجال مبارك وألقى على الملأ محاضرة عن العدالة الانتقالية، وفي الوقت نفسه استدعى أحد إعلاميي داخلية مبارك الفريق أحمد شفيق الذي قدم لنا من أبوظبي مداخلة أدلى فيها بدلوه في الأحداث الجارية. وبأذني سمعت صاحبنا يقول بكل جرأة انسوا حكاية الفلول وأركان النظام السابق، لأن مصر الآن بحاجة لأن تحشد كل القوى لتأكيد التمرد وإسقاط حكم الرئيس مرسي. وجاء كلامه دعوة صريحة لاحتواء الفلول ورجال مبارك وضمهم إلى صفوف الثائرين المتمردين.
ما نشهده الآن يعيد إلى الأذهان شبح الكابوس الذي ظننا أننا تخلصنا منه إلى الأبد، ويطرح احتمال إرجاع عجلة التاريخ إلى الوراء، الأمر الذي بات ينعش آمال الذين يطرحون أنفسهم بحسبانهم أبناء مبارك في أن المستحيل بات ممكنا، وأن الظروف باتت مواتية للاقتراب من ذلك الممكن خطوة خطوة. إنني لا أسمي ذلك مؤامرة، ولكنه تدبير خبيث يستثمر العراك الراهن بين عناصر الجماعة الوطنية، لكي يوجه الضربة القاضية إلى الجميع.