هذا ما بقي من قيادة العالم على يد الدولة العظمى الوحيدة. أشلاء بلدة سورية مدمرة وبقايا جثث منتشرة في الشوارع، وعائلات تحمل أطفالها وتهرب بما تيسّر، بحثاً عن مأوى وعلاج عبر الحدود، بينما تستعد بلدات ريفي حمص وحماة لمواجهة المصير نفسه.
لم يكن السوريون بحاجة إلى المأساة التي حلّت بالقصير ليتأكدوا من حجم الخديعة التي وقعوا في حبائلها على يد إدارة باراك أوباما. كرر أوباما على مسامعهم أكثر من مرة أن أيام بشار الأسد باتت معدودة، وأن استخدام النظام للسلاح الكيماوي … خط أحمر، وأن ارتكاب المجازر بحق المدنيين جريمة لا تقبل الولايات المتحدة، راعية القيم الإنسانية (!) في العالم أن تحصل تحت نظرها.
وكل ما حصدوه من تلك الوعود والتحذيرات الجوفاء هو مزيد من القتل وارتكاب المجازر واستخدام غاز السارين من قبل قوات النظام السوري، على ما أكدت تحقيقات الأمم المتحدة ووسائل الإعلام الدولية. لم يخجل باراك أوباما ولم يرفّ له جفن، بل استخدم حجّة مشاركة «جبهة النصرة» المصنفة إرهابية، في المعارك إلى جانب الثوار السوريين، ليجد في ذلك مبرراً لمنع تسلح المعارضة. متناسياً أن أعمال الخطف ورعاية النشاطات الإرهابية في المنطقة هي في الأساس صناعة سورية، ومتجاهلاً التقارير الاستخبارية التي تؤكد أن مشاركة العناصر المتطرفة في القتال في سورية لا تتجاوز نسبة قليلة من المقاتلين، فضلاً عن أن مواجهة النظام بالسلاح وبالقتل للتظاهرات السلمية في بداية الثورة، وإمعانه في ارتكاب المجازر هو الذي فتح الطريق أمام تطرف القوى التي تقف في مواجهته، ودخول عناصر ظلامية وإرهابية في صفوفها.
لم يطلب السوريون يوماً من إدارة أوباما أن تشارك في القتال ضد النظام بالنيابة عنهم. كل ما طلبوه هو تحقيق حد أدنى من توازن القوى على الأرض، وعدم منع الولايات المتحدة حلفاءها من توفير الدعم الممكن للمعارضة، في الوقت الذي يحظى النظام بدعم عسكري وتمويلي كامل من إيران، ويتم تزويده بما يخسره من المعدات الروسية، فضلاً عن الغطاء الكامل الذي تقدمه موسكو للنظام السوري في مجلس الأمن.
لم يكن بيل كلينتون مبالغاً عندما أطلق على أوباما مؤخراً صفة الرئيس الهاوي، وقال عنه إنه رئيس عاجز ولا يعرف كيف يدار العالم. وبسبب هذا العجز، فإن أوباما لا يلحق الضرر بمصالح بلاده فقط (وهذا آخر الهموم العربية) بل يلحق ضرراً بالغاً بالتركيبة الطائفية والمجتمعية في منطقتنا، والتي تأثرت بشكل كبير نتيجة اتساع الصراع المذهبي (السني الشيعي) في مختلف الدول التي يتعايش فيها أبناء هذين المذهبين. لقد أدى الانسحاب غير المدروس من العراق، وتركه ساحة لنفوذ إيران وحلفائها، كما أدى ترك سورية اليوم ساحة للهيمنة الإيرانية، على ما أظهرت مشاركة «حزب الله» و «الحرس الثوري» الإيراني بالآلاف من المقاتلين في معارك إنقاذ النظام، أظهر كل ذلك مدى جهل إدارة أوباما لتاريخ المنطقة وللحساسيات التي تترتب على سقوط هاتين الدولتين، اللتين كانتا مقر أهم امبراطوريتين عرفهما التاريخ العربي، في يد القوة التي تشكل المنافس الاستراتيجي للعالم العربي على القوة والنفوذ.
قد يقال: وما شأن أميركا بإنقاذ العرب من حروبهم الطائفية؟ أليست هي المستفيد الأكبر من إغراقهم في تلك الحروب ومن تدمير بلدانهم، كما يحصل في سورية، ومن تحول قدراتهم عن العدو المشترك المفترض، كما أثبت غرق «حزب الله» في الحرب السورية، مطمئناً إلى حماية ظهره من جانب إسرائيل؟
ربما كان كل هذا صحيحاً. فأميركا ليست معنية ولا مسؤولة عن المصالح العربية. لكن ما يفترض أن تكون الدولة العظمى الوحيدة معنية به هو الحرص على تحالفاتها في المنطقة وعلى مصالح القوى التي تزعم أنها تقيم علاقات صداقة معها. فعندما تقف إيران في الموقع المعادي لهذه القوى، وعندما تكون إيران مطلقة اليدين لتحقيق المكاسب على الأرض، تصبح الولايات المتحدة ملزمة، سياسياً وليس أخلاقياً فقط، بتحقيق التوازن الضروري بين القوى المتصارعة.
من دون ذلك لن يكون انتصار إيران في القصير آخر انتصاراتها في هجمتها العسكرية على المنطقة.
الياس حرفوش /عن هزيمة أميركا في… القصير
16
المقالة السابقة