هل باستطاعة أردوغان استيعاب حركة الشارع وتحولات المجتمع أم أن النموذج التركي في طريقه إلى نهايته؟ يطرح هذا السؤال نفسه في ساحة تقسيم في إسطنبول وفي دوائر القرار الغربية. ويزداد الإلحاح عليه كلما تطور الحراك الشعبي، خصوصاً أن أردوغان يستوحي الصدر الأعظم في تعاطيه مع المحتجين على سياساته الداخلية والخارجية، رافضاً التراجع عن قراراته التي كانت وراء الانتفاضة.
والواقع أن المتظاهرين الذين رفضوا تغيير معالم ساحة تقسيم في إسطنبول وبناء مجمع تجاري وثكنة عسكرية وجامع فيها، تجاوزوا هذه المرحلة ورفعوا مطالب تتعارض كلياً مع سياسة «حزب العدالة والتنمية». ومنها، على ما جاء في المانيفيستو الذي قدموه إلى الحكومة: وقف التضييق على حرية التعبير، إلغاء السياسة المعادية للمرأة، ومراعاة الحساسية العلوية، وانسحاب تركيا من الحروب الإقليمية، وإقالة المسؤولين الأمنيين الذين واجهوا المتظاهرين بقوة مفرطة.
لكل من هذه المطالب قصته مع حكومة «حزب العدالة والتنمية»، منذ وصوله إلى الحكم قبل عشر سنوات، فالتضييق على حرية التعبير طاول عشرات الصحافيين والكتاب الذين زج بهم في السجون، فضلاً عن الضغط على المؤسسات لطرد كل صحافي يخالف الحكومة. ومعاداة المرأة تتجلى في سلوكيات الحزب، وطرد كل امرأة غير محجبة من مؤسسات كثيرة يديرها. أما إقالة المسؤولين الأمنيين المسؤولين عن قمع التظاهرات فمرتبطة بأخونة النظام.
عمل أردوغان، خلال السنوات الماضية، على تحجيم دور الجيش في السياسة، وهذه مسألة في غاية الأهمية في دولة حكمها العسكر منذ نشأتها عام 1923، فزج عشرات الضباط من هيئة الأركان في السجون، وعيّن قائد الدرك الموالي له قائداً للجيش. وعزز قوات الأمن والدرك بالسلاح والعتاد لتصبح جيشاً موازياً يستخدمه في الداخل ضد المعارضة.
يبقى مطلب مراعاة الحساسية العلوية والانسحاب من الحروب الإقليمية. إن ثقافة أردوغان التي أعادته إلى العثمانية، لا تشير أبداً إلى روح التسامح مع المذاهب والأديان الأخرى: إما الرضوخ لأمر السلطان، أو النفي، أو القتل. فضلاً عن أن تورط أردوغان في الحروب يشد حوله العصبية العثمانية في مواجهة الداخل العلماني والأقليات المتضررة من سياساته.
أريد لنمط حكم «العدالة والتنمية» أن يعم منطقة الشرق الأوسط، فهي إسلامية في معظمها يجب أن يحكمها إسلاميون. هذا ما توصلت إليه الإدارة الأميركية والدول الأوروبية، بعد حروب طويلة مدمرة فشلت خلالها في نشر ديموقراطيتها وقيمها السياسية في المنطقة. وقد برهنت تركيا خلال عشر سنوات من حكم حزب «العدالة والتنمية» أنها نموذج صالح للتعميم، خصوصاً أنها متمسكة بتحالفاتها مع الغرب، وتسعى إلى المزيد من الانخراط في هذا التحالف. وما زالت تشكل رأس الحربة في الصراع مع روسيا، تماماً مثلما كانت أيام الحرب الباردة في عهد الاتحاد السوفياتي، عندما كان جيشها يمثل القوة العسكرية، فيما يشكل إسلاميوها، مع إسلاميي العرب، القوة الروحية المساندة والمدافعة عن القيم الدينية في مواجهة الإلحاد الشيوعي، والحركات القومية العلمانية. فضلاً عن ذلك فحكم الإسلاميين في أنقرة مع حرية الاقتصاد وقد أثبتوا جدارتهم في هذا المجال.
لكن الجميع، من حزب أردوغان إلى الولايات المتحدة، مروراً بالمثقفين العرب والأكراد الذين روجوا ذلك نسوا مسألة في غاية الأهمية ملخصها أن الشعوب في الشرق الأوسط تطورت في اتجاهات مختلفة، وأن جزءاً كبيراً منها ليس مع الإسلاميين. هذا ما أثبتته التجربتان التونسية والمصرية. فـ «الإخوان» في هذين البلدين يواجهون صعوبات كثيرة لأنهم لا يهتمون بإدارة الدولة سياسياً بقدر ما يهتمون بتربية المجتمع وترويضه لمصلحتهم. وهذا ما يتجه إليه حكمهم في تركيا أيضاً. وتربية الناس بالقوة أو القهر استبداد اشتهر به العثمانيون القدامى، ويحاول الجدد تكريسه الآن.
تظاهرات ساحة تقسيم وأنقرة وأزمير، أثبتت أن سياسة الصدر الأعظم ليست مقدسة وأن الكلمة للشعوب.
مصطفى زين/الصدر الأعظم
14
المقالة السابقة