أموت حنيناً إلى الأيام التي كان باستطاعة المرء أن يقول فيها إنه عربي. ومن دون أن يسأله سامعه عن طائفته ومذهبه أو يحاول فضح منابعه انطلاقاً من اسمه. لم أكن معجباً بمن استغلوا العروبة وتسلقوا إلى السلطة على حبالها. ولا بمن وظفوا العروبة لسلب الناس حرياتهم وكرامتهم. لم أكن معجباً بـ «المنقذين» الذين وفدوا على ظهر دبابة واحتقروا الدساتير والمواطنين. ولا بالمستبدين الذين توكأوا على العروبة وتذرعوا بـ «القضية المركزية» لفتح معاهد الاغتيالات والتعذيب والتضليل. ولم أكن أصدق بيانات الحزب. ولا الصحف الرسمية. وكنت أعرف أن نتائج خطط التنمية الحكومية مرت على مدير المخابرات وتلاعب بأرقامها. كنت أعرف كل ذلك بحكم المهنة وهي جهاز لكشف الأكاذيب. لكنني كنت أعتبر العروبة وسادة تحمي من الكوابيس البديلة. من الهويات الضيقة الانتحارية في منطقة يصعب اتهامها بالتسامح. وكنت أراهن على الوقت علنا نبحر في اتجاه عروبة حضارية تصالحنا مع العصر وتجنبنا قواميس الخناجر والمقابر وعفونة الظلمات.
كان شعور المرء أنه عربي يعفيه من السقوط في الحدائق الصغيرة المسمومة. ومن الوقوع تحت سحر عرافي الطوائف وجاذبية جيوشها الضريرة. ومن العصبيات التي لا تجيد إلا فتح المقابر وتنظيم الجنازات الموتورة. وكان العربي يشعر أن خيطاً يربطه بعواصم كثيرة. وأنه يستطيع النوم في بغداد ودمشق والقاهرة وغيرها من دون أن يسأل عن هوية جيرانه في الفندق.
أكتب عن الرداء الذي تمزق من فرط خوفي من الأيام الآتية. من الملامح الجديدة الرهيبة لمنطقتنا. لقد نكأوا جروح التاريخ وها هي تتصبب على الشاشات. وفي الشوارع. وفي المقالات. تشاهد فتشعر بثيابك مبللة بالدم. تقرأ فيقفز طعم الدم إلى عينيك وحلقك. تستمع إلى برامج الحوار السياسي فتسمع صهيل السكاكين وعويل العظام.
لا تغضب عزيزي القارئ. لم يعد باستطاعتك القول إنك عربي. سيسخرون منك. تمزقت تلك العباءة وتهرأت. ولا تستطيع القول إنك عراقي. يجب أن توضح إن كنت سنياً أم شيعياً أم كردياً. لا تستطيع القول إنك سوري. يجب أن توضح إن كنت علوياً أم سنياً. ولا تستطيع القول إنك لبناني. يجب أن توضح من أي جزيرة أنت وما هو موقفك من «المشروع الأرثوذكسي» ومعركة القصير.
أنا المقيم في مكتب هادئ في مدينة هادئة وبعيدة أشعر بخوف فظيع. لقد فتحوا أبواب الجحيم وأيقظوا آبار السموم النائمة. إنها منطقة أخرى هذه التي تولد على أيدي المتشددين والمتعصبين والمجازفين والمتهورين. انفجرت الدول تحت وطأة الظلم والسياسات المغامرة. انفجر الإقليم تحت وطأة برامج تفوق قدرته على الاحتمال. تصدعت الدول والحكومات المركزية. تمزقت هيبة الحدود. تشلعت الجيوش وانغمست في مواسم الفتك بمن ادعت حمايتهم. غازات سامة تنبعث من جثة التعايش. أفسدت قراءة الروايات مخيلتي. أكاد أرى شعوباً في الخيام وشعوباً من الأرامل والأيتام وجبالاً من الدم وأهرامات من النعوش.
مهنتي الأخبار وأنا متفرغ لمهمتي. أتابع تدفق المسلحين الوافدين إلى «الساحة السورية» لنصرة الثورة أو قمعها. أدقق في الدعوات إلى «الجهاد» وفي الوعود بانتصارات. ثم أواكب النعوش العائدة من سورية وأصنف قاطنيها وفق انتماءاتهم الحقيقية والعميقة. هذا إلى البصرة وذاك إلى النبطية. هذا إلى معان الأردنية وذاك إلى طرابلس اللبنانية. هذا كان يقاتل لمنع سقوط القصير وذاك كان يقاتل لإسقاطها. وأصعب من عودة النعوش عودة المحاربين مفخخين بانتصارات وأحقاد ومرارات. عودتهم لينفجروا ببلدانهم وجيرانهم.
على دوي المقتلة المفتوحة في سورية يولد الشرق الأوسط الرهيب. دول خائفة ومخيفة. جيوش خائفة ومخيفة. طوائف خائفة ومخيفة. أكثريات قلقة وأقليات مذعورة. حروب أهلية وتدخلات. مسلحون يتسللون ونعوش ترجع. هويات مسنونة وترسانات عدوانية واجتياحات واستباحات. صواريخ وعبوات ومحاكم ميدانية وطوائف ومخاوف.
إنس عزيزي القارئ العروبة والقضية المركزية والتعايش والتسامح والاعتراف بالآخر والحدود الدولية. استعد لمرارات الانخراط في الشرق الأوسط الرهيب.
غسان شربل/ خائفة ومخيفة
16
المقالة السابقة