قرأت فقرة من كتاب المقدمة للعلامة عبد الرحمن بن خلدون هذه الأيام فتذكرت حال العرب بعد مرور عامين ونصف على ما سمي بالربيع التونسي الذي عم بقاعا أخرى من الوطن العربي بالأمل والألم. يقول ابن خلدون منذ حوالي سبعة قرون: “إن من عوائد العرب الخروج عن ربقة الحاكم وعدم الانقياد في السياسة فهم يتنافسون في الرئاسة وقل أن يسلم أحدهم الأمر لغيره فيتعدد الحكام منهم والأمراء و تختلف الأيدي على الرعية فيفسد العمران وينتقص فتبقى الرعايا في مملكتها دون حكم وهكذا بعدت طباع العرب عن سياسة الملك”. انتهى قول ابن خلدون ولاحظوا معي أيها القراء الأفاضل انطباق عبارة تبقى الرعايا دون حكم على الوضع العربي الراهن فهو يتميز باللادولة وانتفاء ناموس القانون الذي هو الحامي لأعراض الناس وأرزاقهم والضامن لحياة عيالهم وصد المظالم عنهم. فالعلامة ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع ورائد فلسفة التاريخ وأستاذ أرنولد توينبي عالم الحضارة المعروف كان على يقين من أن الجينات العربية لا تقبل النظام حتى و إن كان عادلا و تخرج عن ربقة الحاكم حتى لو كان صاحب شرعية و أهل صلاح و ورع.
و قرأت للمفكر اللبناني أستاذي د.غسان سلامة هذا الرأي: “الاختيار الوحيد المتاح في التاريخ السياسي العربي ينحصر في الاختيار بين الاستبداد والفتنة لا بين الاستبداد والحرية”. كما قرأت للدكتور محمد الأسعد هذا القول المصيب:” إذا بدأت تحاور مثقفا عربيا منتميا لأيديولوجية معينة عليك أولا أن تثبت له أن العالم موجود خارج حدودنا…لأنك تكتشف أنه لم يقم أي وزن لهذا العالم و أن فكره إفراز ذهني لم يأخذ في الحسبان وجود عالم حي متحرك”. هذه الآراء العربية تفرق بينها قرون طويلة لكنها تتفق على غفلة العرب في الغالب عن دوران الأرض وحركة العالم الواسع من حولهم وهم في سنة من النوم كأنما الدنيا تبدأ منهم وتنتهي عندهم بينما السياسة في جوهرها تحليل وبعد نظر ونفاد بصيرة بما هو حولك أيها العربي من تناقض مصالح إقليمية واختلاف توجهات دولية بل وتدافع حضارات متباينة ليس لها نفس الجذور ولا نفس المنطلقات تلك الحضارات الكبرى الخمس التي عددها المفكران صمويل هنتنجتن و فرنسيس فوكوياما وصنفا من بينها بل من أخطرها على الغرب الحضارة الإسلامية ( و بشكل أخف الحضارة الكنفوشية أي التي تقودها الصين) وتوعدا بما سمياه صدام الحضارات والذي يعتقد فوكوياما بأنه محسوم لصالح الغرب ومنهجه الليبرالي وقيمه التي تدعي الكونية مبشرا بنهاية التاريخ!
ونصل إلى حال العرب الراهن لنتأمل في الشتات السياسي والضياع الحضاري اللذين يعطلان مسيرة العرب نحو المستقبل ولنقرأ بصدق الأسباب الموضوعية التي أدت بنا لهذا النفق المظلم فنجد أن غياب التفكير في مراكز القوى العالمية وانعدام تحليل أوضاعنا في صلب التيارات الكونية المتشكلة في أقطاب كبرى جعلتنا لا ندرك مواقعنا الحقيقية على خارطة العلاقات الدولية المتحولة باستمرار وأبرز مثل حديث هو تخبط العرب في معالجة أزمات سوريا والعراق وفلسطين والحركات الجهادية العنيفة التي بدأت تنتشر في الشمال الإفريقي. فقد فوجئنا بكل هذه الأزمات الأربع حزمة واحدة لنفيق فجأة لنجد أنفسنا على فوهة أربعة براكين ذات حمم ولم نكن نتوقعها ولم نحسب لها حسابا والسبب الأصلي هو كما أعتقد إصرارنا الغريب على هندسة المستقبل وإدارة الأزمات بمعزل عن حقائق العالم من حولنا. فالملف السوري اندلع بمساره التقليدي منذ أكثر من عامين حين بدأت مطالب شعبية عادية تطفو على سطح المدن والأرياف السورية واعتقدنا مطمئنين أن مسار سوريا هو ذاته الذي عرفناه وعشناه في تونس ومصر وليبيا واليمن ولم نقدر أن لعبة الأمم الكبرى في سوريا تتجاوز حدود سوريا و حدود منطقة الشرق الأوسط لأن الحالة السورية تظل وثيقة الصلة وشديدة التفاعل مع مصير القوة النووية الإيرانية واستقرار لبنان والأردن وتسرب العدوى للعراق مما يهدد بتغيير جذري في التوازن الاستراتيجي القائم باتفاق العمالقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ونسجل أن إختلاف العرب حول أصول ومصير الملف السوري هو في الحقيقة اختلاف في تقدير مصالح بلدانهم حسب قرب أو بعد هذه البلدان عن مركز الزلازل ومدى ارتباط مستقبل أنظمتهم بالعمالقة الثلاث أميركا وروسيا والصين. في النهاية نستخلص بأن الأزمة السورية ليست أمرا عربيا داخليا ولن تكون ولا نستبعد أن يتفق العرب على هذه الحقيقة فيتعاملون مع الأزمة تعاملا على الأقل يحقن الدماء البريئة و ينأى بسوريا عن الأيدي الخارجية التي قد تختلف فيما بينها ولكنها لا تقيم وزنا للدم السوري المسفوح. ولعل هذا الإدراك هو الذي حدا بالدوحة وواشنطن وأنقرة لدعوة مجلس حقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة للإنعقاد حول الملف السوري الذي أصبح إنسانيا بالدرجة الأولى وكذلك نضع في نفس الخانة موافقة النظام السوري على المشاركة في مؤتمر جينيف 2 وهو ما يشكل مبادرة روسية أي كذلك غير عربية. أما الوضع في العراق فلا نرى له بصيص أمل لإنقاذ هذه البلاد العريقة من التقسيم على أيدي من يخدمون مصالحهم بكردستان مستقل وشيعة منكفئين على إقليم حر وسنة يتوحدون في شبه دويلة هربا من الطائفية المفرطة كما أننا أمام صعوبة عودة الوفاق الفلسطيني لا نلمح بارقة ضوء يبشر بتوحيد جهود المقاومة دبلوماسية كانت أم مسلحة في وجه محتل إسرائيلي لا يقدم أي بديل مقبول ولا يدرك أن حالة اللاحرب واللاسلم سوف تنهكه هو قبل الفلسطينيين و تبقى دائرة الضوء مسلطة هذه الأيام على استفحال ظاهرة السلفية المسلحة في دول المغرب الإسلامي وتهديد القوى الفرنسية والأميركية بالتدخل فيما تحسب باريس وواشنطن أنه مجالهما الحيوي. و بعد هذه المصائب هل من الممكن أن نواصل التخبط بدون تخطيط وبلا غايات حتى تخرج قضايانا من أيدينا لنتحول نحن أصحاب الشأن إلى متفرجين على هندسة مصائرنا ؟
د.أحمد القديدي
كاتب وسياسي تونسي