الجمعة والسبت، هما ليلتان فقط، لكنهما كانتا محملتين بالحقائق لتبوح بها ساحة “تقسيم” التركي عن أن من يظن أنه بمنأى عن “الخريف العربي”، فالخرف قد أصابه، خاصة إذا كان رأس حربة هذا “الخريف” وداعمًا له بقوة بالمال والسلاح وبتجنيد المرتزقة والإرهابيين، ليجعل من أوراق الخريف الذابلة المتساقطة من جسد الأوطان كرات لهب تحرق الجسد بمن وما فيه، مانعًا من أن تزهر تلك الأجساد المنهكة أساسًا أوراقًا جديدة ومن ثم تينع ثمارًا ينتفع بها الجميع. إنها الأيام التي يداولها العادل جل في علاه بين الناس، فيوم لك ويوم عليك، وكما تدين تدان.
حين أطل السلطان العثماني الجديد رجب طيب أردوغان هو وحرمه لأول مرة على قاهرة المعز لحضور اجتماع وزراء الخارجية العرب في دورته الـ136 الذي حاول أن يتقمص فيه دور المناصر للشعب الفلسطيني، مستغلًّا غياب الدور الفاعل لمصر التي تنازلت عن دورها كشقيقة كبرى، معلنًا أنه سيقطع علاقاته الوثيقة والفريدة في المنطقة مع كيان الاحتلال الصهيوني إذا لم يرفع الحصار عن قطاع غزة ويعوض أسر الشهداء الذين اغتالتهم آلة الحرب الصهيونية في عدوان نهاية 2008 وبداية 2009م، لم يكتفِ المواطن العربي ذو العاطفة الجياشة بالتصفيق الحار لكلمات السلطان العثماني الجديد، بل تعدى ذلك إعجابه إلى المقارنة بين الزي المحتشم لزوجة أردوغان وبين زي سوزان مبارك “زوجة الرئيس المصري السابق”، لينطلق هذا السلطان العثماني الجديد وحده مغردًا في سماء المنطقة لا سيما في فترة “الخريف العربي”، وسط حديث هنا وهناك بين الجماهير العربية عن تمنيها بإقامة أنظمة مشابهة لنظام السلطان الجديد أردوغان.
ولم تكن تعرف تلك الجماهير أن كل ذلك هو جزء أصيل في لعبة الأدوار الموزعة أميركيًّا ـ صهيونيًّا، وفي إطار التحالفات الجديدة في المنطقة، في تناسٍ واضحٍ أن الإدارة الأميركية السابقة بقيادة جورج بوش “الصغير” قد عهدت للسلطان العثماني الجديد أردوغان مسؤولية تنفيذ ما يسمى مشروع الشرق الأوسط الكبير؛ وبالتالي هو يمارس دور العرَّاب في المنطقة.
إن استخدام القوة المفرطة ضد المحتجين على هدم متنزه “غازي بارك” التاريخي في “ساحة تقسيم” الرئيسية بمدينة إسطنبول، كبرى المدن التركية، وتحويله إلى مجمع تجاري، وسقوط قتيلين حسب المنظمات الدولية و1000 جريح واعتقال حوالي 939 آخرين له دلالات عدة منها:
أولًا: سقوط كل الشعارات الرنانة والأقنعة التي كان يتقنع بها العثماني الجديد أردوغان، وأنه لا يختلف عن سابقيه الذين أطاح بهم “الخريف العربي”، إن لم يكن أكثرهم ديكتاتورية، أو من يحاول تشويه صورتهم والتحريض ضدهم، ويجند الإرهابيين ويدعمهم للإطاحة بهم، كما هو حال الرئيس السوري بشار الأسد.
ثانيًا: أحداث ساحة “تقسيم” وامتداد الاحتجاجات إلى أنحاء تركية أخرى تعبر في أبسط صورها عن مشاعر مختلطة لدى الشعب التركي تجاه حكومة حزب “العدالة والتنمية”، وأن سياسات هذه الحكومة خرجت عن سياق مصلحة تركيا وشعبها إلى تنفيذ أجندة صهيونية ـ أميركية مدمرة، وتحويل تركيا إلى وكيل وخادم لمشاريع أكبر وأعمق لن يكون الشعب التركي بمنأى عن تداعياتها الخطيرة في الحاضر والمستقبل، ولعل ضرب العلاقة الاجتماعية والأسرية القائمة بين الشعبين التركي والسوري، ومفاقمة أوضاع العراق غير المستقرة، هما أحد مؤشرات هذا التحول المعاكس للمصلحة التركية.
ثالثًا: قمع متظاهرين سلميين انبروا للدفاع عن المساحات الخضراء في مدينة اسطنبول، المصنفة في المرتبة الـ52 على قائمة أغلى المدن في العالم من حيث تكلفة المعيشة، ومصادرة حقوق وأملاك مواطنين أتراك بسطاء يعتاشون عليها ويؤمِّن لهم لقمة عيش تكفيهم ذل السؤال، فقمع هؤلاء بهذه الوحشية ودون سند قانوني، يكشف حقيقة ما كان يتغنى به أردوغان من عدالة ومساواة وتطبيق لمبادئ إسلامية، محاولًا إظهار نفسه بأنه أمير المؤمنين العادل، لأن هذه المصادرة غير الأخلاقية وغير القانونية، ومحاربة هؤلاء الفقراء الأتراك، جاءت نتيجة الجشع الرأسمالي، وبالتالي تؤكد عدم صدق تمسك أردوغان بالمبادئ الإسلامية، وإنما تؤكد تمسكه بالوحشية الرأسمالية التي تبدت وحشيتها في القتل والإصابات والاعتقالات ومصادرة الحقوق.
رابعًا: هذه الوحشية التي تعاملت بها القوات الأردوغانية مع المتظاهرين والمطالبين بالعدالة هي جزء آخر من تفجيرات الريحانية، ومحاولة مجموعة من عناصر ما تسمى “جبهة النصرة” الإرهابية ضرب قاعدة إنجرليك في أضنة ومدينة غازي عنتاب بغاز السارين السام؛ لأن من احتضن هذه الجبهة الإرهابية وأقام لها معسكرات تدريب، ومن ينخرط معها ممن يسمون بـ”الجيش الحر” وغيرها من المشتقات المتمردة والإرهابية هو أردوغان وحكومته.
خامسًا: على خلفية الفوضى التي شهدتها دول عربية سارع المستعمرون والمرجفون في الأرض إلى إسقاط شرعية قادة الأنظمة فيها، في حين يربت هؤلاء على كتف رجلهم وعرَّابهم أردوغان، ويطالبونه بالتعامل مع المتظاهرين بحكمة، وهذه المفارقة لها دلالاتها.
السلطان العثماني الجديد أردوغان بُعيْدَ تلويثه سوريا بالإرهاب والإرهابيين الذين عاثوا فيها فسادًا وقتلًا وتدميرًا، وسفكوا دماء الشعب السوري، عنَّف الرئيس السوري بشار الأسد واتهمه بأنه عديم الأخلاق وأنه جبان، وأنه لو كان شجاعًا لأعلن استقالته من منصبه. واليوم وفي ظل توافر كل الأدلة على الديكتاتورية الأردوغانية، وفي ظل وحشية القتل والاعتداء والاعتقال التي تمارسها القوات الأردوغانية بحق المتظاهرين السلميين الأتراك باتت أخلاق العثماني الجديد وشجاعته على المحك، وغَدَا جميعنا ينتظر لحظة إعلانه استقالته إن كان صادقًا ومؤمنًا وعاملًا بما يقوله ويرمي به الآخرين.
خميس بن حبيب التوبي
khamisaltobi@yahoo.com
خميس التوبي /ليلتا القبض على أردوغان
11
المقالة السابقة