قبل الشروع في كتابة هذا المقال، كنت أنا المبادر هذه المرة إلى الاتصال هاتفياً بصديق عتيق، صرت ألتقيه عبر التلفون المحمول على نحو أكثر بكثير مما كنت أقابله وجهاً لوجه في أوقات سابقة. إذ كانت تحدوني رغبة عميقة في استكشاف ردّة فعل هذا الصديق المنافح على طول الخط عن حزب الله، وذلك بعد أن انخرط الحزب الذي ظل يثير الإعجاب المشترك لدينا، في حرب على المكشوف ضد الثورة السورية.لقد كان هذا الصديق الذي أحترم رؤيته، وأثق كثيراً بتحليلاته، هو المبادر عموماً الى التفضل بالاتصال معي كلما تعرضت لبعض من مواقف حزب الله إزاء ثورة الكرامة والحرية، وانتقدت اصطفافه إلى جانب النظام الدكتاتوري الغارق في دماء شعبه. وكان الرجل يعاتبني حيناً، ويلومني في أكثر الأحيان، قائلاً لي: “ان حزب الله خط أحمر” بالنسبة له، وأنه ينبغي التسامح معه أياً كانت أخطاؤه جسيمة، وكانت ماهيته المذهبية فاقعة.والحق أنني كنت أبدي كامل التفهم لمواقف كل المتمسكين بتقييمهم الإيجابي للحزب الذي صنع العام 2000 أول انسحاب إسرائيلي من جنوب لبنان، بدون قيد أو شرط في تاريخ الصراع المديد. كما كنت أجد أيضاً مساحة مشتركة مع المدافعين عن بعض مواقفه في كثير مما يتصل بسياسته اللبنانية الخلافية، وذلك من منطلق التثمين الكبير لدور هذا الحزب المقاوم، وصموده اللافت في حرب العام 2006.وبالفعل، فقد صحّت افتراضاتي المسبقة بأن دخول حزب الله، مواربة، على خط الأزمة السورية، ثم انخراطه العلني، مؤخراً، في تلك الحرب الخاسرة، سوف يحمل أشد المؤيدين له على مراجعة مواقفهم حياله، والشروع في التحلل من إيمانهم المطلق بصواب سياساته، وذلك على ضوء الأخبار المتواترة، ومقاطع الفيديو المبثوثة، حول انجراف الحزب وراء مشروع توسعي تقوده إيران صراحة.إذ ما إن بدأت تلك المكالمة، حتى بادرني هذا الصديق قائلاً: لقد خسرت الرهان يا عزيزي، وخابت آمالي المعلقة على حنكة قيادة حزب الله التي كنت أعتقد جازماً أنها قيادة حكيمة، ذات رؤية بعيدة المدى، لن تقامر بالمكانة الباذخة التي حققتها في عموم العالم العربي، ولن تستبدل أكاليل المجد التي توجت هامتها بإكليل من الشوك، يطفئ صورتها المضيئة في وجدان الأمة، وينزل بها إلى الدرك الأسفل من الضمير العام.ذلك أن أمين عام حزب الله الذي يحظى بصدقية عالية، وبرهن على ذلك غير مرة واحدة، حتى لدى أعدى أعدائه، كان قد تعهد بالصوت والصورة، بأن سلاحه سوف يظل موجهاً نحو إسرائيل مهما كانت الظروف، وأنه شديد التمسك بمؤشر البوصلة أياً كانت الضغوط، وإذا به اليوم -يقول صديقي- يوجه سلاح مقاتليه من صدور المحتلين في كريات شمونه، إلى ظهور السوريين في بلدة القصير ومقام السيدة زينب.ولعل أشد المخاوف التي يثيرها هذا الانزلاق غير المحمود لحزب الله، وأعمق ما يبث من شكوك حول مبرراته المتهافتة للقتال إلى جانب الشبيحة، هو تفاقم هذا الطابع المذهبي للحرب، وهذه المجازفة بفتح أبواب الفتنة التي لم تغلق تماماً منذ نحو ألف عام، على وسعها من جديد. وهو انحراف كنت أحسب -كما يقول صديقي بمرارة- أن السيد حسن نصرالله، وهو القائد الحاذق الرصين، سوف يتجنّبه بإصرار، حتى لا أقول إنه سوف يقاوم كل الإغراءات والضغوطات، ولو أتت من جانب الولي الفقيه.أما اليوم، فقد بات تشييع مقاتلي حزب الله ينقل عبر التلفزيون، ويتم وصف الضحايا على أنهم شهداء يرفعون الرأس. لذلك، لم يعد بوسعي أنا -يؤكد الصديق العزيز الذي خاصم منتقدي الحزب الحامل للواء المظلومين- الدفاع عن الخطأ المميت، أو تبرير هذا الاصطفاف المذهبي الشائن، ولم يعد في مقدوري التعويل على حكمة ضاعت في مهبّ النزعة الشعوبية، وبالتالي فتح باب الثارات التاريخية، ونحن نرى بأم العين هذا الشطط في الأقوال الهاذية، والإصرار على الأفعال القبيحة الممتدة من القصير إلى مقام السيدة زينب.issa.alshuibi@alghad.jo
عيسى الشعيبي/بين كريات شمونه والسيدة زينب
14
المقالة السابقة