حين قامت الثورة وأطاحت بالرئيس السابق وأسقطت نظامه، فذلك كان حكم الشعب وعقابه الفوري، الذي كان إعلانا مدويا عن الإدانة التي ترتب عليها عزل رأس النظام وطرد أعوانه من مناصبهم، لذلك كان غريبا ومثيرا للدهشة أن يقَّدم هؤلاء إلى القضاء العادي لينظر في أمر إدانتهم أو براءتهم. ذلك بالإضافة إلى المفارقة التي تمثلت في إسقاط مبارك وأعوانه، ثم محاكمتهم في وقت لاحق أمام رجال نظامه وبقوانينه.
المنطوق أعلاه أستكمل به الفكرة التي ذكرتها أمس تعليقا على حكم القضاء بإخلاء سبيل مبارك في قضية قتل المتظاهرين بعد انتهاء فترة الحبس الاحتياطي (سنتان) وقلت إن مبارك مجرم سياسي وليس مجرما جنائيا. وكان لابد أن يحاكم أمام محكمة خاصة تحاكم ممارسات نظامه كلها التي خربت البلد وانحطت به. معتبرا أن محاكمته أمام القضاء العادي من أخطاء سوء التدبير، هذا إذا لم تكن حيلة ماكرة تم اللجوء إليها لكي يفلت من العقوبة التي يستحقها. ونقلت على لسان المستشار طارق البشري قوله إن الطبقة السياسية في الحكومة والمعارضة جَبُنت عن اتخاذ قرار سياسي وثوري تحاكم به الرئيس السابق على جرائمه الكبرى بحق الوطن فسلمت الأمر إلى القضاء العادي لكي يتخذ ما يلزم بصدده.
اليوم أكمل بالفكرة التي طرحتها توا وهى أن قرار الثورة التي انحاز إليها الجيش، انطلق من إدانة النظام وأنزل برأسه وأعوانه عقوبة فورية ضرورية، تمثلت في عزل رأسه وطرد أعوانه من وظائفهم. الأمر الذي يعني أن حكم الشعب ينبغي ألا ينقض، كما يعني أن الكلام عن براءتهم ينبغي ألا يكون واردا، فضلا عن أنه بمثابة إنكار لحكم الثورة وانتصار للثورة المضادة.
حين قلت إن عزل الرئيس السابق وطرد أعوانه هو حكم الشعب. فإنني استندت في ذلك إلى أن ثورة 25 يناير كانت ثورة شعبية بامتياز، لم تكن ثورة طبقة ولا حزب أو جماعة ولا مجموعة من المتمردين الغاضبين.
والإجماع الشعبي على الثورة التي ظلت جماهيرها تردد بقوة في فضاء مصر طوال 18 يوما أن الشعب يريد إسقاط النظام، يسوغ لنا أن نقول إن ما أسفرت عنه بخصوص الرئيس السابق وأعوانه كان حكم الشعب، وقضاؤه النهائي بحقهم.
أفرق هنا بين الثورة والانقلاب، حيث أزعم أن الثورة لها شكل يتمثل في الإجماع الشعبي على تأييدها من خلال أغلبيته الساحقة على الأقل، كما أن لها مضمونا يتمثل في حجم ومدى التغيير المستهدف على الصعيدين السياسي والاجتماعي. أما الانقلاب فقد تقوم به فئة من الناس مستندين إلى قوتهم العسكرية أو استشعارا منهم لضرورة التغيير، وربما تكون تلك الفئة مدعومة بجهة أو جهات أجنبية (الدور الأمريكي في أمريكا اللاتينية وإفريقيا يشهد بذلك). وقد يستهدف الانقلاب إحداث تغيير في الواقع السياسي والاقتصادي، كما أنه قد يستهدف مجرد استبدال نظام بآخر. ولذلك أزعم أن كل ثورة تتضمن انقلابا، ولكن ليس كل انقلاب يؤدى إلى ثورة (للعلم فإن اللغة الفارسية لا تفرق بين الاثنين وتعتبر كل ثورة انقلابا بغض النظر عمن قام بها).
ما سبق يعزز الادعاء بأن تقديم مبارك وأعوانه إلى القضاء العادي كان خطأ ندفع الآن ثمنه، حين صدمتنا أحكام البراءة في حين أننا منذ قامت الثورة اعتبرنا أن إدانة رأس النظام وأعوانه أمرا مفروغا منه ومسلما به. حيث لم يتصور أحد أن يخلى سبيل مبارك بعد كل الجرائم التي ارتكبها بحق الوطن. وكان آخر ما يخطر على البال أن يعيش المصريون في نظام الطوارئ طوال ثلاثين عاما، الذي أطلق يد الأجهزة الأمنية في مصائر الناس وكراماتهم وأعراضهم، ثم نفاجأ بأن الذين أداروا الدولة البوليسية التي أذلت الخلق وزورت الانتخابات وتكفلت بتوريث الابن، هؤلاء جميعا تحولوا إلى حملان وديعة. أطلق سراحهم وقضى ببراءتهم.
هذه المهزلة كان ينبغي تجنب وقوعها من البداية بتقديم الجميع إلى محكمة خاصة لا لكي تفصل في براءتهم من عدمها، ولكن لكي تتعامل معهم بحسبانهم مدانين ابتداء، ثم تحصى جرائمهم وتحدد نوع العقوبة التي يستحقونها. وذلك بعد أن تحدد المسؤولين عن تلك الجرائم سواء كانوا أصحاب قرار أو قيادات تنفيذية.
المشكلة أن الوقت بات متأخرا كثيرا. وما كان ممكنا حدوثه في أشهر الثورة الأولى بات صعبا الآن، ليس فقط بسبب الطول النسبي للفترة الزمنية التي مرت، ولكن أيضا لأن الدستور الجديد لا يتيح الفرصة لتشكيل محاكم خاصة. وهذا هو رأي المستشار حسام الغرياني رئيس الجمعية التأسيسية التي وضعت الدستور، والمستشار طارق البشري. في حين يرى المستشار سمير حافظ أن المادة 150 من الدستور الجديد تسمح بذلك، التي تمكن رئيس الجمهورية من أن يستفتي الناخبين في المسائل المهمة التي تتصل بمسائل الدولة العليا. إلا أن المستشار الغرياني يعتبر الاستفتاء على تشكيل المحكمة الخاصة قد لا يعد من مسائل الدولة العليا، فضلا عن أنه يرى أن نتائج الاستفتاء غير مضمونة. والاثنان ـ الغرياني والبشري ـ يعتبران أن المسألة باتت معقدة، وأنها شأن أي حالة مرضية معقدة يصعب علاجها. لكني قلت للاثنين إن تلك مسؤولية مراجع القانون، الذين يطالبون بحل العقدة بما يحفظ للشعب كلمته وللقضاء مكانته.