تصادف هذه الأيام ذكرى سقوط مدينة حيفا في أيدي العصابات الصهيونية، فقبل 65 عاماً تحديداً وفي 22ـ23إبريل عام 1948 جرى احتلال هذه المدينة البطلة من قبل العصابات التي شكلت نواة الجيش الإسرائيلي فيما بعد.في هذه المناسبة :كنت من بين المدعوين للاستماع إلى محاضرة من ابن مدينة حيفا وعاشقها المؤرخ الفلسطيني جوني منصور، الذي كرس كل حياته ونشاطه من أجل التأريخ لهذه المدينة في المناحي المختلفة: حاراتها، شوارعها، أسماء أحيائها وطرقها وكل أماكنها بما في ذلك السكة الحديد فيها. لقد تعرّضت كل الأسماء العربية فيها إلى العبرنة في محاولة واضحة لشطب تاريخها وهويتها الوطنية العربية وماضيها الجميل. ولو استطاعت إسرائيل إخفاء اسمها وعبرنته لفعلت ذلك. محاضرة المؤرخ الفلسطيني تناولت مختلف جوانب الحياة في المدينة التي كانت منارة علم حضارية شملت الثقافة بمختلف فروعها، والصحافة، وتقدم الحياة الاجتماعية. حيفا شكّلت محجاً للمثقفين والفنانين والروائيين والصحفيين العرب لسنوات طويلة. في حيفا جرى إطلاق لقب ” كوكب الشرق” على سيدة الغناء العربي أم كلثوم بعد الحفلة التي أقامتها في هذه المدينة.
في الثلاثينيات وفي حيفا صدرت حوالي أربعين صحيفة ومجلة من بينها اثنتان صدرتا باللغة الإنجليزية، وفيها تأسس أول اتحاد لعمال فلسطين بقيادة المناضلين سامي طه وأحمد اليماني (أبو ماهر). وقد أُنشئت المسارح والفرق التمثيلية المختلفة، وأقام الشعراء الفلسطينيون وبعض العرب أمسياتهم الشعرية على مسارحها. حيفا مثّلت بمينائها واقتصادها الصناعي مركزاً للعمال من فلسطين والدول العربية المجاورة، وكانت بحق مصدر إشعاع حضاري كبير لكل المدن على الشواطئ المتوسطية.ورغم كل ذلك يأتي المهاجرون اليهود إليها وفي أذهانهم ( مثلما زرعت الصهيونية في عقولهم) أن فلسطين أرض خالية ليس فيها من جوانب الحياة شيء! رغم تقدمها يخط بنيامين نتنياهو في كتابه”مكان تحت الشمس”، أن فلسطين( أرض إسرائيل)كانت مثل صحراء خاوية، جاء اليهود إليها وقاموا بتعميرها!ومن هذه النقطة يتساءل رئيس الوزراء الصهيوني بالتالي أين هو الشعب الذي يسمى فلسطيني؟ من وجهة نظره أن الشعب الفلسطيني تم اختراعه بعد عام 1976بعد أن قامت إسرائيل باستعادة “يهودا والسامرة”والأراضي التي هي مِلكْ تاريخي لليهود.هكذا يتجنى الحاقد نتنياهو على التاريخ الحضاري لفلسطين.
لقد جذبت فلسطين وتحديداً حيفا والقدس، أنظار الحجاج المسيحيين وبخاصة الأوروبيين وجذبت الرحالة من هؤلاء فيلكس شميدت فابري الألماني الذي زار فلسطين بين عامي 1480-1483. وكذلك الفيزيائي الألماني ليونهارد راوخ فولف الذي زارها سنة 1575 ووصف طبيعة تضاريس المنطقة وضمّن تقريره تصنيفاً مفيداً للنباتات والأشجار التي كانت تنمو على الأرض الفلسطينية. يقول الروائي الكبير نيكوس كازنتزاكي في مقالاته التي نشرت عام 1927 في كتابه”ترحال”عن مشاهداته في فلسطين:” دلفت إلى داخل مسجد عمر في القدس وأنا مفتون مسحور، كانت الأحرف العربية مجدولة كالأزهار”. وعن أريحا وحيفا يكتب:”تراها (أريحا) تتبسم لك كواحة من أشجار أمام بساتين الرمان المزهرة،وأشجار الموز والتين، وكلها محاطة بسياج من أشجار النخيل الطويلة الرشيقة، وتستمع بالأشعة الكونية الجذابة، ذلك المنظر البهيج نفسه يقابلك في حيفا،فترى البحروالساحل والجبل في تناغم موسيقي جميل، وترى بساتين الرمان المزهرة والمتجددة وبساتين أشجار البرتقال والليمون”. هذا غيض من فيض نستشهد به لواقع فلسطين وحيفا قبل مئات السنين.هذه التي يقول عنها نتنياهو”:بأنها كانت خراباً”.
حيفا كانت ميناءً لتصدير الحمضيات في القرن الثامن عشر منذ عهد ظاهر العمر، الذي أقام سلطته في مناطق عديدة في شمال فلسطين، وبعض المناطق الأخرى، وعقد اتفاقيات تجارة مع العديد من الدول الأوروبية.حيفا شكّلت مركزاً لبعثات ألمانية وروسية وأخرى أوروبية عديدة، ولو لم تكن متقدمة في كل جوانب الحياة لأهملها التاريخ، ولما أتى إليها أحد. شكّلت حيفا نقطة انطلاق للعمارة ليس في فلسطين فحسب وإنما في المنطقة العربية بأكملها، فلم تكتف بالجوانب الثقافية الحضارية والثقل الاقتصادي، بل شكّلت أيضاً محطة لتطور الحرف والأزياء والفنون المختلفة.هذه هي حيفا، وهكذا كانت فلسطين في العصور الخوالي. يحاول الكيان الصهيوني محو هذا التاريخ،بإهماله المتعمد للمناطق وللآثار والحارات والمواقع العربية،تماماً كما يفعل في عكا ويافا وكافة المدن الفلسطينية الأخرى في منطقة 1948،فممنوع على العربي إصلاح بيته المتداعي! أنها دعوة علنية إسرائيلية لفلسطينيي منطقة 1948 لترك بيوتهم والرحيل إلى المناطق التي تأسست في الزمن الإسرائيلي الأسود.الكثير من المواقع في المدن الفلسطينية مهددة بالزوال والاندثار نتيجة لمنع إسرائيل ترميمها.كما يجري الاستيلاء على الكثير من هذه المواقع تحت حجج مختلفة.
سقوط مدينة حيفا كانت مؤامرة مشتركة بين العصابات الصهيونية وقوات الاحتلال البريطانية، فقد أطبقت قوات هذه العصابات على الأحياء العربية، ودعت ناسها الى الخروج من بيوتهم تحت طائلة القتل ( ومن لم يخرج قامت باخراجه بالقوة بعد قتل بعض أفراد العائلة) لقد جرى إغلاق كافة المداخل من قبل القوات البريطانية (وذلك منعاً لدخول أية مساندة من القرى العربية المحيطة بالمدينة) وسط مقاومة باسلة من المقاومين الفلسطينيين والعرب المؤازرين ، ولكن بأسلحة قليلة (لا تتجاوز البنادق القديمة). كان هذا في الوقت الذي قامت فيه إسرائيل بالعديد من المجازر في فلسطين ( ومنها مجزرة دير ياسين في 9/إبريل / 1948) وبخاصة في منطقة الشمال. هذا في ظل تسليح القوات البريطانية للإسرائيليين. أسالت العصابات الصهيونية، البترول في الطرق المؤدية إلى الأحياء العربية وأشعلت فيها النيران، باستثناء المنافذ المؤدية إلى البحر، في الوقت الذي جُهزّت فيه قوارب حملت الفلسطينيين إلى الشواطئ العربية في لبنان وسوريا. هكذا سقطت مدينة حيفا وأُجبر أهلوها على مغادرتها. حيفا مثّلت انطلاقاً لثورة الشهيد العربي السوري الشيخ عز الدين القسام وفي جوامعها بنى هيكلية تنظيمه . حيفا كانت أيضاً مركزاً للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال البريطاني ومن قبله ضد الحكم الاستعبادي العثماني.
حيفا مدينة جميلة مثل كل المدن الفلسطينية وبخاصة الشاطئية منها، شكل اليهود في أواخر القرن التاسع عشرة ما نسبته 6% من سكانها، وبعد عام 1948 أصبحوا الأغلبية فيها. أهلها مثل كل فلسطينيي منطقة عام 1948 يعانون تمييزاً عنصرياً صهيونياً سافراً. يقفون الآن بكل ما أُعطوا من قوة للحفاظ على عروبتها بكافة السبل والوسائل المتاحة ماضياً وتاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، ومن بينهم المؤرخ المبدع جوني منصور، الذي قدّم محاضرة قيمّة عن مدينته ومدينة كل الفلسطينيين والعرب حيفا. هذه التي لن ينساها فلسطيني أو عربي من المحيط إلى الخليج. حيفا سيجري تحريرها إن آجلاً أو عاجلاً مثل كل الأرض الفلسطينية، وستعود إلى أهلها وإلى ماضيها الجميل، سيرحل الصهاينة عن ترابها مثل كل الغزاة المستعمرين من قبلهم، وستعود فلسطينية عربية مثل كل أرض فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر.
د. فايز رشيد
كاتب فلسطيني