مبتهجاً بالجائزة الكبرى في مسيرته التي بدأت في حرب فلسطين الأولى، قال جمال عبدالناصر وهو يطالع دمشق، إن سوريا هي قلب العروبة النابض. لقد حرّرته الوحدة من العقدة الفرعونية التي تضايقه، كما ضايقت فاروق من قبل، فأي مصر هذه التي تكون مرة فراعنة ومرة مماليك ومرة ألباناً، إن لم تكن دوماً مصر العرب؟ هكذا، أخيراً، ضمّ قلب العروبة الى الجسد الأم. وإذا تأمّلت دمشق جيداً، الى جانبك مصباح التاريخ، سوف تجد أنها ساحة العروبة، لا ساحة المرجة، وغوطة الأمة، لا غوطة بردى.
ولكن أي عروبة تعني؟ العروبة بمعناها الاحتضاني الفسيح الوسيع، وليس بمعناها العرقي والقومي والعنصري الذي دمّر أوروبا في الرسوبات والثارات الوثنية. ففي وادي بردى، كانت تلتقي الروافد التي منها تكونت الأمة، في نشأتها وفي قيامها وفي خروجها من ذلّ الحروب الصليبية. وما كان قلب العروبة النابض سوى قلب أول متّحد أممي، بدأ يوم اختار أهل مكة الشام عاصمة أولى، ومنه انطلق ببني أميَّة الى ديار الأندلس. وفيه، هنا على بردى ألحقت الدنيا ببستان هشام، كما قال سعيد عقل، قبل أن يهجر العروبة الى شرق البردوني.
في هذه الباحة العروبية انطوت الأعراق والأنواء والأهواء أكراداً على تركمان على شركس على سائر الروافد التي يجتذبها قيام الامبراطوريات وفكرة الذوبان في الدوائر الكبرى. قبل الفتح، كانت سوريا من قبل في صدر روما. مرة ترسل إليها الأباطرة من طرطوس، ومرة ترسل من طرطوس شاوول بولس، لكي يبدأ تفكيك الامبراطورية بمسامير المسيح. في روما وفي الامبراطورية العربية بعدها، طغى اسم سوريا على ما حولها، حتى قالت غولدا مئير في نفيها للحق الفلسطيني في الأرض والحرية والحياة، “ليس هناك شيء اسمه فلسطين، هناك جنوب سوريا”.
لم يكن غريباً أن تتركز دعوات الوحدة حول سوريا: وحدة الأرض الخصبة، التي طرحها أنطون سعادة، والتي تبقي خارجها الجزيرة العربية ومصر. ووحدة البعث، التي طرحها ميشال عفلق، والتي ترحب علناً بالجميع، وضمناً تكتفي بسوريا والعراق، بلدي الأقليات التاريخية، وتترك خارجاً أكثرية مصر والجزيرة. ثم كانت هناك أطروحة جورج حبش، الأرثوذكسي الفلسطيني هذه المرة، وتدعو الى استبدال العرب بالماركسيين، والحتميات البطيئة بالعنف السريع.
حالت الرومانسية الكبرى، دون تذكير أنطون وميشال وجورج، بأن في الدنيا الأولى، على عكس ما قد يكون في الدنيا الآخرة (والآخرة خير لك من الأولى) ثمة حقائق لا يقفز فوقها. ضمنها، أنها خلقت هكذا، أكثريات وأقليات. وعليه يمكن أن يكون يوحنا فم الذهب طوباوياً في دمشق ولكن ليس أميراً عليها. غير أن عصر القوميات أشاع خداعاً بصرياً لاهباً. فقد بدا للفريق المتعلق بالفكر الجرماني، أنها أقوى من الدين، أما الفريق الماركسي فرأى أن الدين والقومية معاً، فكرتان عنصريتان والانتصار لأعدائهما. الجورجي ستالين لا يحكم فقط في الكرملين، بل يدمّر أكبر كنائس موسكو ليجعلها مجمعاً رياضياً، تتعبد فيه الناس للعضل. وترى الجنة في الفوز الأولمبي.
في هذا المناخ الكوني خطَر لبعض مسيحيي الشرق، أن الوقت ملائم لإقامة مصهرة يذوب في غليائها الشعور الديني. لم يكن أحد يتوقع يومها أن تُهزم القوميات، وأن تضع الماركسية فلاديمير بوتين على الشرفة وتُبقي فلاديمير لينين في القبو طريح تحنيطه، فقط لأغراض السياحة والطوابير الفضولية ودارسي المهارات الأرمنية في حفظ الزوائل.
في الأسابيع الأولى للثورة التقيت أدونيس، المرتعد ضمناً على الأقليات، الخائف من خوفها، الخائف عليها، الخائف من كبرياء الأكثريات، الخائف من شرعة العنصريات والفوقيات والميل البشري الى التسلط، أكثرياً أو أقلياً، وبين بين. كانت الأمور لا تزال في غموض الاحتمالات. قلت، ماذا تتوقع؟ قال، ليس هناك ما يُبنى عليه حتى الآن، لكن مقالات ميشال كيلو واسكندر سارة لا تكفي لصنع ثورة في سوريا.
لعله قال ذلك بحدة الخوف لا بحدة البصيرة. فالشعراء الذين نعتقد أنهم يعيشون في الغيوم ويكتبون بالرذاذ، هم أيضاً لهم بيوت وأهل وذكريات. لقد ترك أدونيس سوريا منذ نصف قرن من أجل الحرية وأقام في بيروت ثم باريس، ولكن عندما بلغ السبعين ذهب الى جبلة وأقام لنفسه مدفناً حيث صعب عليه أن يقيم بيتاً الى جانب بيت أبيه وأمه. وفي الوصية أنه يعيش في أي مكان لكنه يُنهي الحياة حيث بدأها.
أتذكر دائماً كلام أدونيس ولا أذكِّره به. لكنني أتوقف دائماً عند ما كتب ويكتب ميشال كيلو، المغرّد منفرداً ووحيداً منذ البداية. ففيما تنحرف الثورة وتنجرف، يوماً بعد آخر، بعسكرها وبجرِها ومتطرفيها وتنزلق الى التماثل مع الشبيحة وتغرق في حرب المجالس، يحافظ ميشال كيلو على طوباويات لا علاقة لها بما يدور. شعور المسيحي الذي يدرك أن لا حق له في الصمت، ولكن لا حق له أيضاً في القيادة. هو مسؤول ما دامت المسؤولية فكراً ونضالاً وإخاء. ليس بمعنى الإخاء الماسوني، المصلحي المادي والمحكوم بالسرية، ولكن الإخاء الإنساني المطلق وغير الوصولي. في هذا المعنى يمثّل ميشال كيلو، العلماني اللاطائفي، ما يمثّله الأرثوذكسيون في الحركات القومية الكبرى، من ارتقاء ووحدانية وشفافية وبشريات. دعك من لطخة “الأرثوذكسي” اللبنانية فهذه مجرد لطخة أخرى لا علاقة لها باستقامة الرأي بقدر رخاوة الوصولية وأدب الانتهاز.
مضى زمن كان فيه رجل من الأقلية يتزعّم الثورات. لن يتكرّر دور سلطان الأطرش أو كمال جنبلاط. وفي أسى يجب أن نودّع عروبة ميشال عفلق وميشال كيلو وقسطنطين زريق وكلوفيس مقصود، كي نستعد للهول الذي يسمونه “معركة دمشق”، المدينة التي انشقت عن عبدالناصر في 28 أيلول 1961 وفي 28 أيلول 1970 مات غماً بانفصالها. فلا عروبة من دون دمشق. وإذا أنزلت علَم العروبة عن قاسيون سوف تنفجر حمم العراق والأوثان والطوائف والتخلف والغرائز القاتلة.
دمشق التالية لن تسمح أن يتحدث باسمها ميشال عفلق أو أن يجعلها أنطون سعادة عاصمته أو أن يطوي فيها جورج حبش أزمان الحلم ويموت غير حالم حتى بمثوى في اللِّد. أزمان من الخيبات والضياع مهّدت لمعركة دمشق، حيث ترى العروبة نفسها في حماية إيران وحراسة روسيا. ليست “أم المعارك” كما في خطابيات صدام حسين، لكنها آخر المعارك. أطلقت الرصاصة الأولى على العروبة في 28 أيلول 1961، والآن تتربص رصاصة الرحمة. ربما في أيلول 2013، رقم الحظ عند العرب. وبعدها سندخل عصر الصفر، رقم العبقرية العربية، من أجل أن نبدأ من جديد.
تلك، لا سيناء، تكون النكسة الكبرى. وفي أي حال لا يصنع العرب سوى الهزائم والانتحارات. وسوف يكون للكواسر مهرجان كبير لأن رماد دمشق مأدبة مزيّنة بألوان التاريخ. آخر حواضر المشرق، سوف تنضم الى خط السقوط العربي الطويل. المساجد تنفجر في بغداد والنجف، والسودان تنفرط فيما البشير يلوّح بعصا الماريشالية، وليبيا تنطوي على نفسها في خوف وإخافة، ومصر، خبّرونا عن مصر.
ليست أفضل حالاً. للمرة الثانية في شهر يصل رئيس وزراء قطر حاملاً مساعدة من ثلاثة مليارات دولار. لماذا؟ للمجهود الحربي؟ لا. لم يعد في مصر مجهود حربي. ولم يعد في مصر الكثير مما كان في مصر أو لمصر. ولم يعد مهماً كثيراً أن تساهم قطر في إدارة أزماتها. مَن يذهب الى الدوحة الآن يجد فنادقها مليئة باللاجئين السياسيين العرب. هذا المشهد كان مُلكاً لمقاهي القاهرة، حيث كان الرؤساء المُقبلون ينتظرون دورهم في بلدان الانقلاب والاضطراب.
انفرطت العواصم قبل أن يبلغ الرعب الأخير أسوار دمشق. تفكّك العراق والسودان وتُلملم ليبيا رماد أربعين عاماً من العبَث والقتل والموت. وهوَت التجارب القومية تحت ثقل الرؤوس الحامية والرجال الخطأ. وورث البعث العصرين الأموي والعباسي فازدهرت في عصره الانقلابات والإعدامات والدبابات. اختطفه العسكر وحوّلوا العراق الى سجن وسوريا الى زنازين في فرع فلسطين. وذات مرحلة كان، بفرعيه، بطل الحرب في لبنان، تموّله مساعدات ليبيا المجيدة، كما قال عبدالسلام جلود بعد سقوط رفيقه الأول.
كل ما نراه من انهيار تام، هو صناعة عربية خالصة. حتى الجوارب والقمصان والسراويل، لا تصنع عندنا وإنما نجمّعها للأوروبيين. لكننا بأيدينا صنعنا أسوأ مراحل التاريخ العربي واللاإنساني. هزائم وديكتاتوريات وعلى التلال ارتفعت السجون أو قصور الضباط. أو شركائهم من المدنيين. قبل أن ينسحب الجيش العربي السوري من لبنان ترك صورة لا مثيل لها في أي بلد في العالم: مركز المخابرات الذي يرفع صور الرئيس حافظ الأسد، قبالة مستشفى الجامعة الأميركية. الى هذا المستشفى سوف يأتي، للعلاج، نائبا الرئيس السوري، الأستاذ فاروق الشرع والسيد عبدالحليم خدام.
اللهمّ، ردَّ عن سوريا وعن جميع العرب، الهول المتربص بدمشق. قد تبدو اليوم، في زمن الضيق والضنك، عاصمة سوريا، ومدينة من مدنها، لكنها في الحقيقة حاضرة العرب. وكان يمكن أن تظلّ كذلك لو لم يقترح بوتين أن الحل الأمثل من الجو. بضع طلعات سوداء وينتهي الأمر. هكذا يفكر رجال “الكي. جي. بي.” البريون. نسي الرجل المضلَّع فشل “الميغ” اليومي في أفغانستان. نسي هزائم “الفانتوم” في فيتنام وكمبوديا واللاوس. نسي فشل “الستيلث” في العراق. ونسي أن يتذكر أن هذه التي تُدمّر هي المدن القائمة منذ روما، لن يهزمها هذا الصدئ: “الميغ” و”الكي. جي. بي.”.
سمير عطالله/دمشق: آخر معارك العروبة
21
المقالة السابقة