حقيقة المشهد السياسي اليوم في ظل حكومة نتنياهو، وبشبه الإجماع على امتداد خريطة الأحزاب والبرامج السياسية الإسرائيلية أن “حل الدولتين” لديهم قد استنفد، وأن” الدولة الفلسطينية المستقلة مستحيلة”، وأن المطلوب اعتراف فلسطيني بـ”يهودية إسرائيل”، وأن “المدينة المقدسة يهودية موحدة عاصمة إسرائيل إلى الأبد”، و” أن حق العودة للاجئين ينفي وجود إسرائيل”، و” أن الانسحاب من الضفة الغربية ليس واردا في الاستراتيجية الإسرائيلية”، بينما ” أن من حق اليهودي أن يستوطن في أي مكان في أرض إسرائيل”، والأهم في المشهد المتصل منذ سنوات” أن حكومة نتنياهو لن تكون سوى حكومة استيطان وأزمات وحروب”، ولذلك يغدو من الجدير أن نتوقف أمام الخيارات القائمة في الأفق الإسرائيلي.
فلم تتوقف المؤامرات والمشاريع والخطط الإسرائيلية المدعومة أمريكيا في ظل مسيرة عملية المفاوضات الطويلة، عن محاولة تصفية عناوين القضية الفلسطينية كافة، وتصفية الملف الأهم والأخطر الذي يشكل جوهر القضية، ملف “حق العودة للاجئين الفلسطينيين”، فمنذ أكثر من ستة عقود وهم يسعون إلى تصفية الملف عبر التوطين، وهناك عشرات مشاريع التوطين الموثقة التي منيت كلها بالفشل، وبعد أن تم تأجيل هذا الملف في إطار المفاوضات المستمرة منذ مدريد، تفتقت العقلية الصهيونية عن خطة جديدة تسعى لاستبدال الأفق السياسي السيادي الاستقلالي للشعب الفلسطيني إلى أفق أمني اقتصادي فقط، أي كأنهم يقولون للفلسطينيين: “هذا هو المتاح اليوم.. وهذا ما نعرضه عليكم، فإن أردتم أن تعيشوا فأمامكم الأفق الاقتصادي المعروض الذي لن يتحسن أيضا إلا بالقيام بواجباتكم الأمنية، وإن لم تريدوا فتحملوا العواقب”.
هكذا هي الأمور اليوم أيضا، حيث تلتقي العقلية الصهيونية مع العقلية البريطانية الباردة مع العقلية الأمريكية الحليفة، في تبني الأفق الأمني – الاقتصادي للفلسطينيين، وفي العمل على تفكيك القضية وحق العودة للملايين من اللاجئين إلى أجهزة أمنية في خدمة إسرائيل، وإلى دولارات أمريكية.
فاليوم، وبعد مكوكيات المبعوثين الأمريكان وغيرهم، وبعد زيارة أوباما الأخيرة التي أعلن فيها “أن فلسطين هي أرض الميعاد”، يأتي وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ليطمئن الفلسطينيين والعرب بأنه سيبدأ جولات مكوكية -على الطريقة الكيسنجرية- من أجل استئناف المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، ولكن يجب أولا العمل على بناء الثقة بين الطرفين، هذه الأسطوانة المشروخة المخبورة منذ عشرين عاما من المفاوضات، فالثقة لن تقوم أبدا ما بين لصوص التاريخ والوطن وما بين أصحاب هذا الوطن، فالنوايا المبيتة إذا وراء حكاية بناء الثقة هي تدجين وأقلمة الفلسطينيين على المطالب الإسرائيلية، وقد تفتق ذهن كيري أيضا عن “الحل السحري” الذي أطلق عليه “السلام-الأفق الاقتصادي أولا “، فقال: “إن النمو الاقتصادي سيساعدنا على خلق الثقة، كانت الكثير من النوايا الطيبة في الماضي ولكن المساعي فشلت لأسباب مختلفة، كان لنا جميعا الوقت الكافي لاستخلاص الدروس كي نتقدم، وللطرفين الآن فروض بيتية نعدها، سأعود إلى هنا بعد أن أنهي فروضي البيتية هذه”.
تصوروا.. يأتينا كيري بعد كل هذا الزمن الطويل من المفاوضات والعذابات والاستيطان والتهويد والسطو المسلح على الوطن والتاريخ ليقول لنا لـ “نبدأ بخطوات بناء الثقة”، ويقترح علينا “السلام –الأفق الاقتصادي” وهو خيار رئيس وزرائهم نتنياهو كما هو معروف.
وما وراء السلام الاقتصادي يبيت الاحتلال نوايا وأجندات شيطانية من شأنها أن تدمر مع الزمن المستهلك المهدور مقومات رحيل الاحتلال والاستقلال كافة، وفي هذا السلام الاقتصادي، كثف المفكر والمحلل الاستراتيجي الإسرائيلي المعروف عوزي اراد في يديعوت أحرونوت جوهر هذه الفلسفة قائلا: ” لا يوجد في هذه اللحظة محادث مسؤول ومخول، يمكن معه البحث في التسوية الدائمة، وبعد العقم وعدم إغلاق اتفاق المبادئ، ستكون لازمة انعطافة نحو مسار بديل، لتسويات مرحلية، يجب تصميم مبنى مرحليا، منطقه المدماك مع المدماك – واختبارها في تطبيقها، ومدماك كهذا هو المجال الاقتصادي، الذي وجد طوني بلير وبنيامين نتنياهو أن في إطاره يمكن خلق تقدم ملموس في المدى الزمني القصير، وثماره السياسية ستبث تأثيرها على السياق، وهكذا، ينبغي أن نشخص وأن نرسم مجالات الفعل السليمة، وإبداء الابداعية في رسمها، كما أن المرحلية ستسمح لإسرائيل بأن تعيد إلى المعادلة مبدأ التبادلية، وكذا الإفادة من المردودات من جانب الولايات المتحدة وأوروبا”.
هكذا هو طريق السلام الذي يحمله لنا كيري، والذي كان رسمه الثنائي بلير – نتنياهو، فالسلام من وجهة نظرهم يبدأ من الأمن إلى الجيب أيضا، ومن قبول الأمر الواقع وتحسين مستوى المعيشة، وعبر سلسلة طويلة لا حصر لها من خطوات بناء الثقة التي يجب أن ترضى عنها إسرائيل وتريحها أربعين عاما…؟!.
نواف الزرو/كيري والسلام الاقتصادي..!
15
المقالة السابقة