أضاءت سماء الوطن العربي خلال العقود الماضية وما زالت تلك الإسهامات الفكرية والثقافية والمعرفية والتربوية التي غذت بها المؤسسات والمراكز الإعلامية والبحثية والاكاديمية الكويتية المواطن العربي منذ نعومة أظافره وحتى مرحلة الكهولة، وغدت الكويت لؤلؤة العرب وعاصمتهم الثقافية توأم الروح ومقصد الفؤاد لكل من نشد المعرفة وارتحل في طلب العلم، ولمن ابتغى علياء المجد ورغب في أن يكون ذا شأن وحظوة في المستقبل وإن كان طفلا يتغذى المعرفة ويخوض عباب المغامرة ويقتدي بالمبدعين من كافة دول العالم الذين يلتقيهم عبر صفحات (( ماجد )) أو شابا ينهل العلم والثقافة والأدب ويأخذ من تجارب الحياة زادا فكريا ومعرفيا من مجلة ((العربي)) أو مفكرا مثقفا عالما أستاذا يبحر بأشرعته الفكرية عباب ((عالم المعرفة)) التي قدمت في أعدادها الشهرية خلاصة فكر وثقافة وعلوم المبدعين والمتميزين والباحثين المنتمين إلى شتى بقاع العالم، وكان المسرح والدراما الكويتية يبهران المشاهد العربي بما يقدمانه من أعمال متميزة ومتنوعة في قالب كوميدي يعبر عن واقع الحياة ويحكي حقيقة المشهد العربي .. طفلا كان أم شابا أم كهلا يعيش في قريته النائية بقمم الجبال الشامخة في أقصى الغرب أو الشرق في تلك المساحة الواسعة التي تدخل ضمن النطاق الجغرافي للعالم العربي كان ذات يوم ممسكا بواحدة من تلك الإضاءات يأخذ منها ما يحقق هدفه ويروي ظمأه المعرفي، مثقفو هذا الوطن وكتابه ومفكروه والصفوة فيه جميعهم أخذوا بعضا من ثقافتهم وعلمهم وخلاصة أفكارهم وأبحاثهم من تلك المجلات والدوريات والحوليات التي تصدرها المؤسسات والمراكز الكويتية وكانت عاملا مهما في تكوينهم الثقافي وساهمت في نجاحهم وفي أدائهم المميز .. الكويت وحقولها الثقافية وإضاءاتها المعرفية، في تنوعها وتميزها وفي رسائلها العميقة المحددة بعناية، وفي أهدافها السامية الموجهة إلى مختلف المستويات العمرية والثقافية والفكرية هما معا يشكلان متلازمتين لا مجال لانفصال الأولى عن الثانية أو الثانية عن الأولى، هكذا رسمت الكويت طريقها وربط الكويتيون حياتهم وسخروا أنفسهم وأقلامهم وفكرهم وإبداعهم لإنشاء وتطوير وتنمية المؤسسات والمراكز الثقافية والتربوية والأدبية والإعلامية التي كان لها الدور الريادي وما زالت في التنوير والتثقيف ونشر المعرفة، وكانت الأطباق المعرفية التي يسيل لها لعاب القارئ والباحث والمطلع وهو ينطلق إلى منافذ التسويق متلهفا متشوقا لاقتناء مجلته المفضلة التي تتناسب مع عمره وثقافته وميوله أبدعت مادتها وحددت مضامينها وصاغتها بذلك القالب المشوق والجاذب والممتع واختارت عناوينها ورسمت خطوطها العريضة أقلام عدد من المفكرين والأدباء والمثقفين والتربويين والإعلاميين الكويتيين وأشقائهم من مختلف البلدان العربية الذين احتضنتهم واستضافتهم وأكرمت إبداعهم المؤسسات والمراكز الكويتية التي فتحت أحضانها مشرعة لهم، فلهم منا كل الشكر والتقدير على ما قدموه من نتاج معرفي واسع، وهذه الأجيال من العلماء والمفكرين والمبدعين والمثقفين والرواد منهم من غيبه الموت ومنهم من يعيش أيامه الأخيرة، وجيلا بعد جيل تمضي تلك المسيرة مكتسبة المزيد من الخبرة والتطور والابداع وما زالت تلك المجلات والحوليات والدوريات تقدم عطاءها للمجتمعات العربية في كل مكان.
هذه الحياة الكويتية المتنوعة والمتميزة في ثقافتها الزاخرة بحقول العلم والمعرفة والابداع، وهذه البيئة الثرية بالمنتج العلمي والثقافي والأدبي والتي علمت وأكسبت المواطن الكويتي فن الحوار والقدرة على إدارة النقاش وتقدير الآراء وإن تباينت واختلفت في مضامينها ورؤاها وممارسة وسائل وأدوات النقد والانتصار إلى المبادئ والقيم الإنسانية الراقية والتواصل مع ثقافات وتجارب الشعوب الأخرى، هي التي مكنت الكويت من تجاوز العديد من المطبات والأزمات السياسية، والتغلب على النكبات والمحن العديدة التي استهدفتها وطنا وشعبا وأرادت النيل من استقلاليتها ومن مكتسباتها وانجازاتها الكبيرة، والتي عرفتها الكويت طوال تاريخها الحديث، ومكنتها من إرساء نظام ديمقراطي قوي، ومن بناء مؤسسة برلمانية لا تقل في صلاحياتها التشريعية والرقابية وقوة أدائها عن أي مؤسسة برلمانية أخرى في العالم الديمقراطي، وعندما كان الكويتيون يتوجهون إلى صناديق الانتخاب لاختيار مرشحيهم في مجلس الأمة، وكان أعضاء هذا المجلس يمارسون دورهم التشريعي والرقابي كانت الشعوب العربية في عدد واسع من بلدانها لم تمارس هـذا الدور بعد، وبرغم أن العلاقة بين الحكومة والبرلمان مرت بفترات مد وجزر يعطل أحيانا مسيرة التنمية إلا أن تأسيس وتعميق القيم الديمقراطية من خلال الممارسة العملية واعتياد المواطن على ثقافة المشاركة وتحمل المسئولية سوف يعود بالخير ويفضي إلى حياة سياسية آمنة ومستقرة في المستقبل. لقد عبر الكويتيون بنجاح الكثير من العقبات والمنعطفات وتجاوزوا محنا وعواصف هوجاء، وكانت للحنكة والخبرة وبعد النظر وعمق التجارب التي وطدت أسسها الثقافة الواسعة والمعرفة المتراكمة والوعي السياسي والممارسة العملية للقيم الديمقراطية الفضل في ذلك الانجاز الذي يفتخر به الكويتيون. لقد جمعنا حفل غداء في بيت السفير العماني في الكويت بوزير التربية والتعليم الكويتي الدكتور نايف الحجرف الذي سجل موقفا مشرفا عندما قدم استقالته لأمير الكويت على خلفية حادث وفاة طالبة في مدرستها، فساهمت قنوات التواصل والمواقع الحوارية في تحميل وزارة التربية والتعليم المسئولية عن الحادث، في الوقت الذي كشفت فيه التحقيقات أن أسبابا طبيعية كانت وراء الوفاة، وانتصارا للشفافية وتحمل المسئولية واستقلالا للتحقيقات وتعزيزا للثقة قدم الوزير استقالته، إلا أن أمير الكويت رفضها خاصة بعد أن كشفت الحقيقة وظهرت براءة وزارة التربية والتعليم من أي تقصير وأية مسئولية عن الوفاة. وللسفير العماني في الكويت سعادة / سالم بن سهيل المعشني نشاط ملموس وحضور قوي بين كبار الشخصيات ورجال الدولة والفاعلين داخل الكويت نظرا لدماثة خلقه وكرمه الحاتمي وتواصله مع كافة شرائح المجتمع وبناء علاقات قوية معها أسهمت في خدمة العلاقات العمانية الكويتية وتحقيق مصالح المواطن العماني وتيسير مهام وإجراءات العمانيين في الكويت متعلمين أو عاملين أو طالبين لعلاج … وله العديد من المواقف المشرفة التي لا يسع المقال للحديث عنها فله كل الشكر على جهوده وعلى تقديمه للإنسان العماني بالصورة المشرفة والمتميزة.
زرت الكويت عدة مرات خلال العقدين المنصرمين كانت تلك الزيارات في معظمها تدخل ضمن برامج تدريبية ومهمات عمل مرتبطة بالعمل البرلماني، كان آخرها في الفترة من 10 إلى 11 ابريل الحالي، أي خلال الأسبوع المنصرم ضمن الوفد المشارك في المؤتمر التاسع عشر للاتحاد البرلماني العربي برئاسة سعادة الشيخ / رئيس مجلس الشورى وعدد من أعضاء مجلسي الدولة والشورى، وكنت وما زلت أتوسم في هذا الاتحاد شيئا من النجاح والعطاء يخالف ما عهدناه وعرفناه من نتائج لمختلف الجهود والاتحادات والارتباطات والتجمعات والوسائل والقنوات التي تهدف إلى تعميق وتعزيز أشكال التواصل العربي العربي، وذلك من حيث أن أعضاء هذا الاتحاد يمثلون شعوب ومواطني الدول العربية ويعبرون عن طموحاتهم وتطلعاتهم، ويفترض أنهم يسعون إلى تحقيق أهداف وغايات هذه الشعوب التي تطمح إلى الوحدة وتعميق التعاون والتواصل والأواصر بين مختلف البلدان العربية، وتوظيف مختلف الأسباب والعوامل التي من شأنها أن تعبر بهذه الأمة من وضعها المتأزم إلى مرحلة تتحقق فيها غايات التطور والنهوض واللحاق بركب الحضارة، ولأن الاتحاد البرلماني العربي دائما ما يستعرض ويناقش ويتعرض لقضايا وموضوعات حيوية تمس حياة المجتمع وتدخل في صميم اهتمامات المواطن العربي، والتي ترتبط بالشباب والمرأة والطفولة، وتأتي قضايا التشغيل والتوظيف ضمن أولويات الاتحاد حيث تطمح الشعوب العربية إلى (( إيجاد فرص عمل للشباب الذين يتزايد عددهم، وإلى توزيع عادل للخيرات)). ومما لا شك فيه بأن أعضاء هذا الاتحاد سوف يمثلون شعوبهم أفضل تمثيل خاصة بعد أن تستقر الأوضاع في البلدان العربية بعد مرحلة التغيير وتترسخ القيم الديمقراطية ويصبح التمثيل حقيقيا ومعبرا لا مصطنعا ومفروضا، إلى جانب ذلك فإنه من الأهمية أن تصبح توصيات هذا الاتحاد ملزمة ويصار إلى تطبيقها وتنفيذها من قبل الحكومات العربية وأن تكون له موازنته التي تكفل له القيام بمسئولياته وتنفيذ العديد من قراراته وتوصياته. فهل سيتمكن الاتحاد البرلماني العربي فعلا من تحقيق هذا الحلم الذي عاشت بأمل تحقيقه أجيال غيبها الموت وأخرى بلغت مرحلة الهرم وكادت أن تتجاوزه، وجيل يعمل على تغيير واقع أمته ويسعى إلى إحداث التغيير ورسم ملامح مستقبل تتحقق فيه الطموحات والأهداف والغايات الكبيرة التي تمت الإشارة لها؟.
بدأت الطائرة الخاصة المقلة للوفد الرسمي بالهبوط التدريجي في مطار الكويت في الساعة الخامسة مساء بتوقيت الكويت، وبهبوطها التدريجي بدأت معالم الكويت تتشكل أمام أبصارنا شيئا فشيئا، ونحن في لهفة وشوق لاستطلاع تلك الفوارق والتغيرات التي طرأت وقامت خلال الفترة من زيارتنا السابقة والحالية، في البناء والتنمية والتحديث، وكانت الصورة في شموليتها وبحسب ما لمسناها وشاهدناها جدا مختلفة عما كانت عليه فالحياة الكويتية تعج بالحركة والنشاط والحيوية كما عهدناها دائما والاضافات اللاحقة على الانجازات السابقة شاهدة وواضحة للعيان، والأبراج الشاهقة تكاد تناطح السحاب، وكانت السيارات المتكدسة في المواقف أو في طوابير تزدحم بها الشوارع خاصة الفرعية منها والسائرة على المسارات الرئيسية بتؤدة لعدم قدرة هذه الشوارع على استيعابها تعطي قراءة بشأن أعدادها الهائلة، وتؤكد على مستوى التنمية والدخل المرتفع للمواطن الذي يمتلك سيارة أو أكثر وعلى أهمية السيارة في دول الخليج النفطية التي عمقت ثقافة (( سيارة لكل مواطن)) على حساب ثقافة النقل الجماعي غير المكلف للمواطن والحكومة (( الباصات، القطارات، المترو ..))، والأسلم صحة للإنسان الذي تتأثر بيئته سلبا وتزداد تلوثا كلما ارتفع عدد السيارات المستخدمة في الشوارع.
من أبرز وأهم ما تضمنته بنود جدول أعمال الاتحاد البرلماني العربي في مؤتمره التاسع عشر: تقرير الاتحاد حول نشاطه ونشاط اللجنة التنفيذية منذ المؤتمر الثامن عشر، تشكيل لجان المؤتمر وهي: لجنة الشؤون السياسية العلاقات البرلمانية، لجنة الشؤون المالية والاقتصادية، ولجنة شؤون المرأة والطفولة، ومتابعة أعمالها، الاستماع إلى مداخلات رؤساء البرلمانات حول الوضع العربي الراهن والحراك الشعبي، وخطة عمل الاتحاد لعام 2013م. وقد تضمنت الكلمة التي ألقاها سعادة رئيس مجلس الشورى العماني أمام المؤتمر عددا من المحاور من أهمها:
• الإشادة بالإنجازات الكبيرة التي حققتها الكويت في مجال العمل السياسي والبرلماني والثقافي.
• التأكيد على أهمية تعزيز العمل العربي المشترك، وترسيخ ثقافة الحوار ونشر مظلة السلام والانفتاح على الآخر، والمساهمة في معالجة الخلافات العربية العربية وإنهاء حالات التأزم وسوء الفهم بين الأطراف المتنازعة والمختلفة في أكثر من دولة عربية، والتركيز على كل ما من شأنه توحيد الكلمة ورص الصفوف.
• ما يجمع الأمة العربية من عوامل وأسباب ونقاط التقاء تدفع بها إلى التعاون وتحقيق الوحدة أكبر بكثير من عوامل خلاف وهمية ومصطنعة في الأساس، وهو ما يجب التركيز عليه والتنبيه إليه دائما، لما فيه من خير ومنافع ومصالح لهذه الأمة.
• التأكيد على أهمية ترسيخ القيم الديمقراطية وتعزيز وتفعيل ثقافة الحوار والشفافية في الدول العربية التي تجاوزت مرحلة التغيير بما يحقق الوحدة والتعاون ويؤسس لثقة متبادلة بين مكونات وأطياف وفئات المجتمع ويراعي حقوق الإنسان.
• إن الحرص على سلامة القطر السوري ووحدة أراضيه، والحفاظ على أرواح وممتلكات واستقرار الشعب السوري وتعزيز اللحمة الوطنية بين فئاته وأطرافه المتنازعة تفرض على الجميع العمل المخلص لوقف هذا النزاع الذي أسال دماء غزيرة وغيب أبرياء كثر.
• توجيه التهنئة للشعب الفلسطيني على النجاح الدبلوماسي الذي حققوه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بحصولهم على اعترافٍ دولي باعتبار دولة فلسطين عضوا مراقبا في الأمم المتحدة.
• للسلطنة تجربتها الخاصة في ميدان العمل الديمقراطي، وهي تجربةٌ مستقاة من واقع الحياة العُمانية، ووفقا لهذه التجربة فإن مجلس الشورى تقدم خطوات واثقة ومحسوبة نحو ترسيخ العمل البرلماني.
كانت المناقشات والمداولات التي شهدها المؤتمر في عمومها غنية بالأفكار والرؤى والملاحظات القيمة، وكانت الأوضاع التي تشهدها بعض البلدان العربية بعد الانتفاضات الجماهيرية والتي تمر (( بمخاض شديد الصعوبة بالنسبة لتحقيق الأهداف)) التي تقف وراء تلك الانتفاضات حاضرة بقوة في التقارير والمناقشات وأعمال المؤتمر حيث تم التأكيد على أخطار جدية تواجه تلك البلدان من أهمها:
• خطر الاحتواء سواء من جانب أطراف خارجية تتضح مناوراتها لدفع هذه الانتفاضات في مسارات تنسجم مع مصالحها، أم من جانب انصار الأنظمة المنهارة، والتي لا يزال لها نفوذ وامتدادات.
• الخطر الناجم عن تباين وجهات النظر حول المستقبل بين مختلف الفصائل والفرقاء الذين شاركوا في صنع التغيير، والذي بدأت معالمه تظهر جلية في مصر وتونس واليمن وليبيا، والناجم عن التنوع في الأفكار والرؤى والانتماءات لدى مفجري هذه الانتفاضات من جهة، ولعدم الوضوح وضعف التجربة العملية في إدارة دفة الحكم من جهة أخرى.
وكانت القضية الفلسطينية والوضع السوري وعجز جامعة الدول العربية عن التأثير في الأحداث أو في فرض حل عربي يقطع الطريق على التدخلات الأجنبية الخارجية حاضرة بقوة في المداولات وهاجسا يشعر بثقله وتحمل مسئولياته أعضاء هذا المؤتمر. وما زال البرلمانيون العرب على خلافهم الحاد في مناقشاتهم وفي نظرتهم إلى الثورات العربية التي يراها البعض ربيعا عربيا فيما يقذفها آخرون بأقذع الشتائم، والحكم بين الفريقين هو المستقبل وما سيحمله ويضعه أمامنا من نتائج.
سعود بن علي الحارثي
كاتب عماني
Saud2002h@hotmail.com