تملأ المشهد السياسي اللبناني ولغة الخطاب الإعلامي، تعابير تنبئ بما يراد للبنان في هذه المرحلة من تاريخه.
ولا تمر فقرة، وأحياناً بضعة أسطر في تصريح أو بيان لزعيم أو قائد سياسي أو مسؤول من الكبار أو من متسلقي المناصب الصغار، في هذه الأيام، من دون أن تتضمن كلمات من نوع «تأجيل الانتخابات»، او «التمديد للبرلمان»، أو «تعليق قانون الانتخاب» أو «وقف» هذه المادة أو إلغائها أو «دفن» هذا القانون أو «إحيائه» أو «تجميد» مفعوله أو «إطالة» تشكيل الحكومة أو «إعاقتها» أو «التباطؤ» في وضع قانون جديد للانتخاب أو «ربح الوقت»… الى ما هنالك من كلمات استُنفدت مرادفاتها في قاموس اللغة العربية. وكل هذه التعابير لا تعبر سوى عن شيء واحد هو محاولة قتل الحياة السياسية اللبنانية وتجميدها.
ولو شاءت أي مؤسسة احصائية تسجيل المرات التي تستخدم فيها هذه الكلمات في نشرات الأخبار أو الصحف، لاحتاجت الى برنامج الكتروني متخصص في ذلك أو لوقت طويل كي يتم استخراج عدد المرات التي تستخدم فيها.
وإذا كان من دلالة لرواج هذه التعابير، بما فيها الإصرار على إجراء الانتخابات في «موعدها»، فهي أنها تؤشر الى انحدار مستوى الحياة السياسية، فالكتل النيابية أهدرت خلال الأيام القليلة الماضية وقتاً في المبارزة اللغوية، ودخلت في نقاش تافه على مسألة تعليق مواد في قانون الانتخاب الحالي بحجج واهية، انزلق اليها الذين لا يريدون تأجيل الانتخابات مثلما افتعلها من يريدون تأجيلها، ليتساوى الجميع من دون استثناء في الانغماس بوحل تعطيل الحياة السياسية من طريق سفسطائية لا نهاية لها.
إلا أن هذا الانزلاق، على رغم سخافة مفردات السجال الداخلي اللبناني، مؤشر الى تطور جوهري تمثّل بتسمية سليل العائلة السياسية العريقة في المشهد السياسي اللبناني تمام سلام لرئاسة حكومة الانتخابات النيابية المفترضة. إنها لحظة لا تقف عند حدود نوستالجيا جمهور لبناني الى عودة البيوتات اللبنانية التقليدية للعب دورها. فهي لم تغب يوماً وإن تراجع بعضها لفترة ثم عاد، بل هو تعبير عن أن «تعليق» الحياة السياسية اللبنانية الخاضعة لتوازنات ومعايير وقوانين محلية وتاريخية، تّم بفعل ضغط الوصاية السورية ثم بالاشتراك مع إيران لمصلحة معادلة داخلية تخدم توجهات إقليمية محددة.
لقد كان تهجير الرئيس الراحل صائب سلام عام 1984 عبر إطلاق قذيفة على سور دارته في قلب بيروت واحداً من مظاهر تعليق هذه المعادلة لمصلحة تلك التي أرادتها دمشق منذ 40 سنة لتطويع الطبقة السياسية اللبنانية. وكانت عودة نجله الى كرسي والده إيذاناً بأن القبضة الحديد التي مارسها الجانب السوري ثم بالتحالف مع ايران، على القرار اللبناني، أخذت تضعف وترتخي بفعل الثورة السورية والربيع العربي، على رغم ما يشوبه.
إلا أن ارتخاء القبضة بعد أن كان تعطيل المعادلة الداخلية اللبنانية يتم تحت غطاء الشعارات الكبرى الرنانة والطنانة والكونية مثل مواجهة الاستعمار والهيمنة الأميركية – الإسرائيلية، فرض انكشافاً للمسرح السياسي، فباتت المفردات التي هيمنت على أحداث الأسابيع والأيام الماضية مثل «التمديد» للبرلمان و «تعليق» مواد في قانون الانتخاب وتجميد كذا وتأجيل ذاك، تقال علناً بهدف «تعطيل» إمكان عودة اللعبة السياسية اللبناينة الى قوانينها ومعاييرها المستقلة والتقليدية. لم تعد الشعارات العظمى تكفي لتغطية مصادرة هذه اللعبة. ولم يعد استخدام القوة والقهر قادراً على تطويعها.
وإذا كان الفريق السياسي الذي استفاد من تعطيل هذه اللعبة لعقود ولا سيما «حزب الله» قد أُسقط في يده ولم يجد سوى الانسجام مع لحظة التحول بإجماع الطائفة السنية على دعم تمام سلام لرئاسة الحكومة، ولم يتمكن هذه المرة من إجبار وليد جنبلاط بالقوة على معاكسة هذا الإجماع كما فعل عام 2011، فإن «تجميد» تلك اللحظة عند حدود تكليف الرجل الهادئ والمعتدل والعقلاني، ومنعه من استعادة القوانين الداخلية للعبة بالحؤول دون تشكيله الحكومة لإجراء الانتخابات، سيكون إهداراً لفرصة التأقلم مع التحول الإقليمي وفي سورية تحديداً وانعكاساته اللبنانية. فقد بات من الصعب إذا لم يكن من المستحيل، مقاومته.
وإذا كان «حزب الله» وحلفاؤه برروا تأييدهم تسمية سلام، بأنه إبعاد للحريري ورموز تيار «المستقبل» عن «رئاسة الحكومة، فإنه سبب إضافي كي يقلعوا عن سياسة تجميد قوانين اللعبة الداخلية اللبنانية. والوجه الآخر لموقف الحريري هذا هو إبداء المرونة والاعتدال والواقعية في التعاطي مع هذه اللعبة. وآن الأوان كي يقوم «حزب الله» بمراجعة دلائل كل ذلك لبدء رحلة التكيّف معها. انها مرحلة جديدة في لبنان، قد تأخذ وقتاً. لكنها بداية نهاية مرحلة «تعليق» قواعد اللعبة الداخلية.
وليد شقير/سلام وارتخاء القبضة السورية – الإيرانية
14
المقالة السابقة