كان شعار “الشعب يريد” هو الأكثر تداولا فيما سمي بالربيع العربي تناقلته المظاهرات من تونس صاحبة براءة الاختراع إلى القاهرة فطرابلس فصنعاء فبغداد ثم تأكد هذا الشعب العربي الذي كان يريد الحرية والكرامة والتشغيل والعدالة الاجتماعية أنه برغم تحقيق حرية الرأي والتعبير فالمعضلات الجديدة عوضت المعضلات القديمة والرمز الساطع في ذلك هو حادثة انتحار الشاب عادل الخذري منذ أيام قليلة بإحراق نفسه أمام المسرح البلدي بتونس بعد عامين من تاريخ الـ 17 من ديسمبر 2010 يوم انتحار سلفه الشاب محمد بوعزيزي في مدينة سيدي بوزيد بإحراق نفسه وبنفس الطريقة ولنفس الأسباب. هذا الحدث يرمز إلى أن الأحلام الوردية العربية عموما بإنهاء عهد الاستبداد الذي أدى إلى انتحار البوعزيزي هي أحلام طوباوية لأن الشاب عادل انتظر سنتين واستمع للوعود المجانية ثم اكتشف أن حالته إزدادت سوءا واستيقظ ذات صباح ليكرر نفس تمرد البوعزيزي بإحراق هذا الجسد الطاهر احتجاجا على القنوط. حتى إن الرأي العام في تونس بدأ يتساءل عما حققته الثورة بعد سنتين!
وفي مصر كان الشعب هو الآخر يريد….دولة عادلة يعيش فيها المواطن المصري موفور الكرامة وقال قائل من الشارع القاهري للرئيس مبارك: شكر الله سعيك وتوكل على الله! فتوكل الرئيس على الله وانصرف فإذا بمواقع فيسبوك تنقل لنا فيديوهات سحل رهيب وتمثيل بجثث الضحايا بعد القتل لمواطن مصري بأيدي مواطنين مصريين وهو ما لم يقع في أي عهد منذ الملك فؤاد والملك فاروق إلى عبد الناصر إلى السادات إلى مبارك رغم هول الاستبداد واستهانة تلك الأنظمة أحيانا بحياة المصريين. وبهذه الأعمال الشنيعة تدخل الثورة المصرية هناك منطقة المحظور ويراق دم الأبرياء بدون حسيب أو رقيب بينما المصري الطيب يظل غلبانا وهاربا لربنا ومنتظر الأمن والأمان. بل وشرع النائب العام المصري يأذن بإيقاف بعض السياسيين بنفس حجج الرؤساء السابقين الثلاثة ناصر والسادات ومبارك.
وفي العراق ظل الشعب الأبي يعد السنوات العجاف من واحد إلى عشرة منذ أن وقفت الدبابة الأميركية في ساحة الفردوس يوم الـ 9 من أبريل 2003 إلى الـ 9 من أبريل 2013 لتقوم في ذلك اليوم المشهود بما عجز عنه الجمهور المتجمهر فأحكمت الحبال حول عنق تمثال صدام حسين وسحبته الدبابة فسقط تمهيدا لحبل المشنقة الذي وضعه العراقيون ذات صباح عيد الأضحى المبارك حول عنق صدام نفسه هذه المرة ليتدلى الرجل كالأسطورة الإغريقية بعد سنوات الحكم والحرب. وتحول الحلم العراقي بوطن أمن ودولة عادلة إلى كابوس طائفي واستقل إقليم الأكراد عن الدولة المركزية ممهدا الطريق لطموحات كردية مماثلة في تركيا وإيران وسوريا. ولعل أبلغ تلخيص لحالة العراق اليوم هو الذي أوجزه نائب الرئيس السابق طارق الهاشمي حين كتب: “العراق اليوم سيادته ناقصة وأمنه مفقود وشعبه منقسم وثرواته منهوبة وهويته مستهدفة “
وأنظر إلى حال اليمن اليوم وابصر فكما قال الله في كتابه العزيز (ثُمَّ ارْجِع الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِير) “سورة الملك” لأن شبح تقسيم اليمن إلى شمال و جنوب عاد قويا يراود الناس هناك بعد أن اعتقدنا أن هذا الشبح مات وشبع موتا منذ عقدين ويوم الـ 22 من مايو 1990 حين أعلن العليان (علي سالم البيض وعلي عبد الله صالح) وحدة الجمهورية اليمنية والتأم شمل العائلة العربية السعيدة في جو من الحماس والعزم على تأبيد وحدة اليمن! فما الذي جرى بعد ذلك الربيع الشتوي حتى يعاد النظر في أغلى ما حققه اليمنيون جميعا وما باركناه نحن العرب معهم مصدقين انبلاج ذلك الفجر المبارك!
إنه لمؤشر بليغ الدلالة حين جمع بين قادة دول ما يسمى بالربيع لسان الوعيد بعد أن كانوا وهم في المعارضات ضحايا تلك اللغة الحديد وإنه لمؤشر سوء أن يلقوا بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها بيانات التنديد ليكتشفوا عصا التهديد يرفعونها في وجوه جيل جديد من معارضيهم ويقسموا اليوم وهم في السلطة معارضاتهم إلى معارضات يصفونها بالمواطنية حين تماشيهم ومعارضات ينعتونها بالمجرمة وسيئة النية حين تعارضهم بجد. سبحان الله مغير أحوالهم وعسى أن يستوعبوا دروس التاريخ الذي لا يرحم ويتذكروا أن جل القادة الذين أطيح بهم سنة 2011 بدأوا عهود حكمهم رافعين نفس شعارات الربيع العربي وصفقت لهم الشعوب بمن فيها بعض هؤلاء الذين يتصدرون اليوم مشهد الثورات. ثم أصابتهم فتنة الحكم فقلبوا للشعب ظهرالمجن وشرعوا يقمعون ويسجنون وينفون خصومهم بنفس الحجج والتبريرات التي نسمعها اليوم من أفواه ضحاياهم السابقين إن الخطر المحدق هو أن بعض بلادنا انتقلت من دولة الاستبداد إلى اللا دولة فاعتبروا يا أولي الألباب.
د.أحمد القديدي/من الدولة المستبدة إلى اللا دولة
15
المقالة السابقة